أما الرأي الثاني: وهو القول بعدم تكفير الخوارج؛ فأهل هذا الرأي يقولون:
إن الاجتراء على إخراج أحد من الإسلام أمر غير هين، نظراً لكثرة النصوص
التي تحذر من ذلك إلا من ظهر الكفر من قوله أو فعله فلا مانع حينئذ من
تكفيره بعد إقامة الحجة عليه.
ولهذا أحجم كثير من العلماء أيضاً عن
إطلاق هذا الحكم عليهم وهؤلاء اكتفوا بتفسيقهم، وأن حكم الإسلام يجري عليهم
لقيامهم بأمر الدين- وأن لهم أخطاء وحسنات كغيرهم من الناس، ثم إن كثيراً
من السلف لم يعاملوهم معاملة الكفار كما جرى لهم مع علي رضي الله عنه وعمر
بن عبد العزيز؛ فلم تسبى ذريتهم وتغنم أموالهم.
يرى
أصحاب هذا الرأي أن الاجتراء على إخراج أحد من الإسلام أمر غير هين، نظرا
لما ورد من نصوص تحذر من مثل هذا الحكم أشد التحذير، إلا لمن عرف من الكفر
بقول أو فعل، فلا مانع حينئذ من تكفيره إذا لم يكن له تأويل فيما ذهب إليه،
ولهذا أحجم كثير من العلماء عن إطلاق هذا الحكم.
يقول القاضي عياض:
"كادت هذه المسألة (أي مسألة تكفير الخوارج) تكون أشد إشكالا عند المتكلمين
من غيرها حتى سأل الفقيه عبدالحق الإمام أبا المعالي عنها فاعتذر بأن
إدخال كافر في الملة وإخراج مسلم عنها عظيم في الدين. قال: وقد توقف قبله
القاضي أبو بكر الباقلاني، وقال: ولم يصرح القوم بالكفر، وإنما قالوا
أقوالاً تؤدي إلى الكفر"
.
ويقول القرطبي: "وباب التكفير باب خطر، ولا نعدل بالسلامة شيئا"
.
وأهل
هذا الرأي، وإن كانوا قد تورعوا عن تكفيرهم على العموم، إلا أنهم مختلفون
في حقيقة أمرهم، فمنهم من يرى أنهم وإن كانوا غير خارجين عن الإسلام لكنهم
فسقة؛ لأنهم قد شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم طبقوا
بالفعل أركان الإسلام، وهذا يمنع من تكفيرهم أو إلحاقهم بمن لا يقر بذلك،
وتفسيقهم إنما كان لما عرف عنهم من تكفيرهم المسلمين، واستباحة دمائهم
وأموالهم.
وهذا الرأي هو لأكثر أهل الأصول من أهل السنة فيما يرويه ابن
حجر بقوله: "وذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فساق، وأن
حكم الإسلام يجري عليهم لتلفظهم بالشهادتين ومواظبتهم على أركان الإسلام،
وإنما فسقوا بتكفيرهم المسلمين مستندين إلى تأويل فاسد، وجرهم ذلك إلى
استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم والشهادة عليهم بالكفر والشرك"
.
وذهب
البعض الآخر من القائلين بعدم تكفيرهم إلى أن الخوارج فرقة كبقية فرق
المسلمين، وأنهم وإن كانوا على ضلال فإن ذلك لا يخرجهم عن جملة فرق
المسلمين التي وجد لها حسنات وأخطاء، وهذا ما يقوله الخطابي فيما يذكره عنه
ابن حجر، جازما بأن هذا الحكم (أي عدم إخراجهم عن الإسلام) أمر مجمع عليه
لدى علماء المسلمين وذلك في قوله: "أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج مع
ضلالتهم فرقة من فرق المسلمين، وأجازوا مناكحتهم، وأكل ذبائحهم، وأنهم لا
يكفرون ما داموا متمسكين بأصل الإسلام"
.
ومثل الخطابي ابن بطال، فقد قال أيضا: "ذهب جمهور العلماء إلى أن الخوارج غير خارجين عن جملة المسلمين "
،
من الكفر فروا، "ولكن ابن حجر يشك فيما يظهر في صحة هذا القول عن علي،
ويرى أنه على فرض صحته فإنه يحمل على أنه لم يكن قد اطلع على معتقداتهم
التي أوجبت تكفيرهم عند من يراه"
.
ويؤيد
ما ذهب إليه ابن بطال ما أخرجه الطبري بسند صحيح عن عبدالله ابن الحارث عن
رجل من بني نضر عن علي وذكر الخوارج، فقال: (إن خالفوا إماما عدلا
فقاتلوهم، وإن خالفوا إماما جائرا، فلا تقاتلوهم، فإن لهم مقالا"
.
ويروي
ابن أبي الحديد عن علي رضي الله عنه روايات تفيد أنه كان لا يرى كفر
الخوارج، ولا استباحة دمائهم، ومنها قوله: (لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس
من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه)؛ ثم قال ابن أبي الحديد في
تفسيره: "قال الرضي رحمه الله: يعني معاوية وأصحابه"، ويقول ابن أبي الحديد
أيضا عن الخوارج: "ولهم في الجملة تمسك بالدين ومحاماة عن عقيدة اعتقدوها،
وإن أخطأوا فيها... ولا ريب في تلزم الخوارج بالدين"
.
ونلاحظ على ابن أبي الحديد هنا أنه عندما يحكم عليهم حين خروجهم على الإمام علي يرى بأنهم من أهل النار
!!
ومن
الذين تورعوا عن تكفيرهم، ورأى أن حكمهم هو حكم غيرهم من الفرق الإسلامية –
الشاطبي، فهو يرى أن الخوارج غير كافرين، مستندا في حكمه هذا إلى ما ورد
من روايات عن السلف، وخصوصا ما كان من موقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه،
وكذا عمر بن عبدالعزيز رحمه الله، حيث عاملوهم معاملة أهل الإسلام.
يقول
الشاطبي في هذا: "وقد اختلف الأمة في تكفير هؤلاء الفرق أصحاب البدع
العظمى، ولكن الذي يقوى في النظر، وبحسب الأثر؛ عدم القطع بتكفيرهم،
والدليل عليه عمل السلف الصالح فيهم".
ثم استشهد بما جرى لهم مع علي
وعمر بن عبدالعزيز، قال: "فإنه لما اجتمعت الحرورية وفارقت الجماعة لم
يهيجهم علي ولا قاتلهم، ولو كانوا بخروجهم مرتدين لم يتركهم لقوله عليه
الصلاة والسلام: ((من بدل دينه فاقتلوه...))
،
وعمر بن عبدالعزيز أيضا لما خرج في زمانه الحرورية بالموصل أمر بالكف عنهم
على ما أمر به علي رضي الله عنه ولم يعاملهم معاملة المرتدين"
.
ولعل
الشاطبي رحمه الله يشير بما ذكره من أن عليا لم يهيجهم ولم يقاتلهم؛ أنه
لم يتسرع إلى قتلهم أول الأمر، بل قال بأنه سوف يعاملهم معاملة حسنة، فلا
يمنعهم المساجد، ولا يحرمهم الفيئ، ما دامت أيديهم معه وما داموا لم
يرتكبوا محرما، ولكنهم حين خرجوا وقتلوا ابن خباب وغيره، حاربهم في معركة
النهروان الشهيرة حتى أفناهم.
ومن الذين اعتبروا الخوارج فرقة إسلامية
كغيرها من الفرق الأخرى الشافعي فيما ينقله عنه الطالبي بقوله: "وأما
الإمام الشافعي فإنه لم يفرق بين مذهب الخوارج وبين غيره من مذاهب الفرق
الأخرى في عدم التكفير بها"
.
والقول
بعدم تكفيرهم هو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد أورد حول الحكم على
الخوارج نقاشا طويلا، خلص منه إلى أنهم ليسوا كفارا ولا مرتدين، وإنما هم
فئة باغية، وأورد حججا على صحة ما يراه في هذا الحكم، بما جرى لهم مع علي
وابن عباس وغيرهما من الصحابة الذين لم يحكموا بردتهم، بل عاملوهم معاملة
المسلمين، خصوصا حين انتهت تلك الحروب التي اشتعلت بينه وبينهم في
النهروان، فهو كما يقول: "لم يسب لهم ذرية، ولا غنم لهم مالا، ولا سار فيهم
سيرة الصحابة في المرتدين، كمسيلمة الكذاب وأمثاله، بل كانت سيرة علي
والصحابة في الخوارج مخالفة لسيرة الصحابة في أهل الردة، ولم ينكر أحد على
علي ذلك، فعلم اتفاق الصحابة على أنهم لم يكونوا مرتدين عن دين الإسلام"
.
ويذكر أن عليا لم يحاربهم لأنهم كفار، وإنما حاربهم لدفع ظلمهم وبغيهم
.... إلخ ما أورده رحمه الله.
ولكن
شيخ الإسلام رحمه الله وإن لم يقل بكفرهم لكنه يعتبرهم من شرار الخلق وممن
يجب قتالهم، وهذا رأي كثير من علماء المسلمين، وإن كان هناك من لا يرى
وجوب قتالهم، فقد كان الحسن البصري ينهى عن مقاتلة الخوارج – فيما يبدو-
فقد أتاه رجل فقال له. "يا أبا سعيد إن هؤلاء استنفروني لأقاتل الخوارج،
فما ترى؟ فقال: إن هؤلاء أخرجتهم ذنوب هؤلاء، وإن هؤلاء يرسلونك تقاتل
ذنوبهم، فلا تكن القتيل منهم، فإن القوم أهل خصومة يوم القيامة"
.
وقال خريم معظما قتال الخوارج، وناهيا عن حربهم فيما ينقله الملطي عنه:
ولست بقاتل رجلا يصلي |
|
على سلطان آخر من قريش |
له سلطانه وعلي ذنبي |
|
معاذ الله من سفه وطيش |
أأقتل مسلما في غير ذنب |
|
فلست بنافعي ما عشت عيشي . |
وقال
مروان بن الحكم لأيمن بن خزيم: "ألا تخرج تقاتل؟ فقال: إن أبي وعمي شهدا
بدرا مع رسول الله، وإنهما عهدا إلي أن لا أقاتل أحدا يقول: لا إله إلا
الله، فإن جئتني ببراءة من النار، قال: اخرج فلا حاجة لنا فيك"
.