وقد استند الذين كفروهم على ما ورد من أحاديث المروق المشهورة عند علماء
الفرق؛ رادين الخوارج إلى سلفهم القديم ذي الخويصرة وموقفه الخاطئ من رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ثم موقف الخوارج أيضاً من الصحابة خصوصاً الإمام
علياً وغيره ممن شارك في قضية التحكيم.
والأحاديث الواردة فيهم كثيرة
غير أن علي يحيى معمر يرى أن هذه الأحاديث إنما تصدق –على فرض صحتها كما
يذكر- على المرتدين في زمن أبي بكر رضي الله عنه
وما
رأيت أحداً من العلماء سبقه إلى هذا القول. ثم إن ما في الأحاديث من أوصاف
الخوارج من كثرة قراءتهم للقرآن وتعمقهم في العبادة لا ينطبق على هؤلاء
المرتدين في زمن أبي بكر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد كفرهم كثير من العلماء، لا نرى التطويل بذكر أسمائهم هنا.
وإذا
كان بعض العلماء يتحرج عن تكفيرهم عموماً فإنه لا يتحرج عن تكفير بعض
الفرق منهم، كالبدعية من الخوارج الذين قصروا الصلاة على ركعة في الصباح
وركعة في المساء. والميمونية- حيث أجازوا نكاح بعض المحارم كبنات البنين
وبنات البنات وبنات بني الأخوة، ثم زادوا فأنكروا أن تكون سورة يوسف من
القرآن لاشتمالها –فيما يزعمون- على ذكر العشق
والحب، والقرآن فيه الجد، وكذا اليزيدية منهم، حيث زعموا أن الله سيرسل
رسولاً من العجم فينسخ بشريعته شريعة محمد صلى الله عليه وسلم
.
وقد
نظر الذين كفروا الخوارج أو كفروا بعضهم إلى ما أحدثوه من عقائد وأحكام
مخالفة لما هو معلوم من الدين بالضرورة، فكفروهم ومن هؤلاء المكفرين من رد
سلفهم القديم إلى ذي الخويصرة، ونظر إلى ما ورد في حقهم من الأحاديث التي
تصفهم بالمروق من الدين؛ فكفرهم.
وقد وردت عن علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة جملة من هذه الأحاديث الصحيحة ومنها:
1- حديث علي رضي الله عنه، وفيه وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((سيخرج
قوم في آخر الزمان، حداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير
البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من
الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم
القيامة))
.
2- حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((يخرج
في هذه الأمة – ولم يقل: منها- قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم يقرؤون القرآن
لا يجاوز حلوقهم- أو: حناجرهم- يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية،
فينظر الرامي إلى سهمه، إلى نصله، إلى رصافه، فيتمارى في الفوقة هل علق بها
من الدم شيء))
.
3- حديث عبدالله بن عمر، وذكر الحرورية فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية))
.
4- حديث ذي الخويصرة التميمي عن أبي سعيد قال: ((بينا
النبي صلى الله عليه وسلم يقسم جاء عبدالله بن ذي الخويصرة التميمي فقال:
اعدل يا رسول الله، فقال: ويلك من يعدل إذا لم أعدل؟! قال عمر بن الخطاب:
دعني أضرب عنقه قال: دعه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته، وصيامه
مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في قذذه فلا
يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في رصافه فلا
يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نضيه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم،
آيتهم رجل إحدى يديه – أو قال: ثدييه – مثل ثدي المرأة – أو قال: مثل
البضعة تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس. قال أبو سعيد: أشهد سمعت من
النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فنزلت فيه: وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ))
.
5-
حدثنا يسير بن عمرو قال: قلت لسهل بن حنيف: هل سمعت النبي صلى الله عليه
وسلم يقول في الخوارج شيئا؟ قال: سمعته يقول وأهوى بيده قبل العراق: ((يخرج منه قوم يقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية))
.
وقد
أورد ابن حجر عدة روايات عن الصحابة تصف الخوارج بأنهم شرار الخلق
والخليقة، وأنهم أبغض خلق الله، وأنه يقتلهم خير الخلق والخليقة، وهي
روايات كثيرة
،
ثم أورد أسماء طائفة من العلماء الذين كفروهم، كالبخاري، حيث قرنهم
بالملحدين، وأفرد عنهم المتأولين بترجمة، وبذلك صرح القاضي أبو بكر بن
العربي – فيما يذكر ابن حجر – حيث صرح بكفرهم في شرح الترمذي، وقال: إن هذا
هو الصحيح، مستندا إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ((يمرقون من الإسلام))، وبقوله: ((ولأقتلنهم قتل عاد))
،وفي لفظ: ((ثمود))
، ولحكمهم على من خالف معتقدهم بالكفر والتخليد في النار، فكانوا هم أحق بالاسم منهم، وبقوله: ((هم شر الخلق والخليقة))
، ولا يوصف بذلك إلا الكفار، ولقوله: "إنهم أبغض الخلق إلى الله تعالى"
.
ومثله
ما نقله ابن حجر عن السبكي، حيث يرى أن الصحيح هو القول بكفرهم، وذلك بسبب
تكفيرهم أعلام الصحابة، لتضمنه تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في شهادته
لهم بالجنة، وكذا القرطبي فقد قال في المفهم: "والقول بتكفيرهم أظهر في الحديث"
وقال
أيضا: "فعلى القول بتكفيرهم، يقاتلون ويقتلون، وتسبى أموالهم، وهو قول
طائفة من أهل الحديث في أموال الخوارج، وعلى القول بعدم تكفيرهم يسلك بهم
مسلك أهل البغي إذا شقوا العصا، ونصبوا الحرب"
. وهذا يدل على أنه غير جازم بالحكم فيهم، وإن كان يرى ترك تكفيرهم أسلم لقوله: "وباب التكفير باب خطر، ولا تعدل بالسلامة شيئا"
.ونقل ابن حجر أيضا عن صاحب الشفا قوله: "وكذا نقطع بكفر كل من قال قولا يتوصل به إلى تضليل الأمة أو تكفير الصحابة"
.
ثم قال: "وحكاه صاحب الروضة في كتاب الردة عنه وأقره"
.
ويروي
ابن الجوزي كثيرا من مذامهم، ثم أورد حديثا بسند ينتهي إلى عبدالله بن أبي
أوفى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الخوارج كلاب أهل
النار"
.
وقال
الملطي: "جاء رجل إلى طاوس من أهل الجند، فقال: يا أبا عبدالرحمن علي غزوة
في سبيل الله، فقال: عندك هؤلاء، فاحمل على هؤلاء الخبثاء، فإن ذلك يؤدي
عنك"
،وهذا يشير إلى تكفيرهم.
ولقد
بالغ الملطي فادعى إجماع الأمة على تكفير الخوارج، فقال مخاطبا لهم:
"وأنتم بإجماع الأمة مارقون، خارجون من دين الله، لا اختلاف بين الأمة في
ذلك"
.
وقد أنكر عليه الطالبي دعوى الإجماع هذه بأنه من الصعب أن يثبت زعمه الإجماع على إكفار الخوارج"
.
وممن
كفرهم أيضا أبو المظفر شاهور الإسفراييني فيما ذكره عنه الطالبي أيضا،
وذلك لأنهم "كفروا الصحابة"، "ويجزم (يعني الإسفراييني) بأن من كان اعتقاده
كاعتقادهم، فإنه لا شبهة تعترض أهل الديانة في خروجه عن الملة"
..
وهذا
هو رأي الزيدية جميعا فيما ينقله الطالبي عن الشيخ المفيد بقوله: "ويصرح
الشيخ المفيد بأن الزيدية قاطبة مجمعة على أن الخارجين على الإمام علي بن
أبي طالب كفار، بسبب خروجهم عليه، وأنهم مخلدون في النار"
، وهو اعتقاد جميع الشيعة في الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه.
وفي
هذا يقول ابن أبي الحديد: "وأما الخوارج فإنهم مرقوا عن الدين بالخبر
النبوي المجمع عليه، ولا يختلف أصحابنا في أنهم من أهل النار"
،ثم
صرح بأن الخوارج والمعتزلة على اتفاق في كل المسائل، ماعدا خروجهم على
علي، فهو الفارق فيما بينهم، وهو الذي أحبط أعمالهم عنده، كما في قوله:
"ولا ريب أن الخوارج إنما برئ أهل الدين والحق منهم – يعني بأهل الدين
والحق المعتزلة- لأنهم فارقوا عليا، وبرئوا منه، وما عدا ذلك من عقائدهم
نحو القول بتخليد الفاسق في النار، والقول بالخروج على أمراء الجور، وغير
ذلك من أقاويلهم، فإن أصحابنا يقولون بها ويذهبون إليها، فلم يبق ما يقتضي
البراءة منهم إلا براءتهم من علي"
.
وقد
أرجع علي يحيى معمر الإباضي كل ما جاء من أحاديث المروق إلى المرتدين
الذين خرجوا على أبي بكر رضي الله عنه بقوله: "فإن أحاديث المروق - إذا صحت
- لا يكون المقصود منها إلا أصحاب الثورة الأولى أولئك الذين خرجوا على
خلافة أبي بكر، منكرين للشريعة أو لأصل من أصولها"
.
فهو
يشك في صحة أحاديث المروق، وعلى فرض صحتها – حسب تعبيره – فإنه يقصرها على
المرتدين، والواقع أنها أحاديث صحيحة جاءت في الصحيحين، والقول بأنها
واردة على المرتدين في زمن أبي بكر رضي الله عنه، لم أر فيما تيسر لي
قراءته أن أحدا قد قال بهذا سواه.
ثم إن ما في الأحاديث من أوصاف الخوارج من كثرة قراءتهم للقرآن وتعمقهم في العبادة لا ينطبق على هؤلاء المرتدين.
وقد ذكر الشاطبي عدة آيات في ذم البدع وسوء منقلب أصحابها، "وذكر عن بعض السلف أنه أولها على الخوارج"
،
ويذكر أنه حينما وقف أبو أمامة على سبعين رأسا من الخوارج قتلوا فنصبت
رؤوسهم، أنه وصفهم بأنهم كلاب جهنم فيما يرويه عنه أبو غالب، واسمه حرور
قال: (كنت بالشام، فبعث المهلب سبعين رأسا من الخوارج، فنصبوا على درج دمشق
فكنت على ظهر بيت لي، فمر أبو أمامة فنزلت فاتبعته، فلما وقف عليهم دمعت
عيناه، وقال: "سبحان الله! ما يصنع السلطان ببني آدم – قالها ثلاثا- كلاب
جهنم، كلاب جهنم، شر قتلى تحت ظل السماء- ثلاث مرات، خير قتلى من قتلوه،
طوبى لمن قتلهم أو قتلوه، ثم التفت إلي فقال: أبا غالب، إنك بأرض هم بها
كثير فأعاذك الله منهم، قلت: رأيتك بكيت حين رأيتهم، قال: بكيت رحمة حين
رأيتهم كانوا من أهل الإسلام)
.
وفيما ينسب إلى الإمام علي، أنه فسر قوله تعالى: قُلْ
هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ
سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف: 103-104] بأنهم الحرورية
.
ويصفهم الشهرستاني بقوله: "فهم المارقة الذين قال فيهم (يعني الرسول صلى الله عليه وسلم): ((سيخرج من ضئضئي هذا الرجل قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية))
.
وممن
كفرهم أيضا، الدبسي في رسالته، وذلك بسبب تكفيرهم بعض الصحابة، وبما
اعتقدوا من اعتقادات، ثم قال: "وفي شرح العقائد: من قذف عائشة رضي الله
عنها فهو كافر، ومن أنكر شفاعة الشافعين يوم القيامة فهو كافر، وفي محيط
البرهان: من أنكر الجنة أو النار أو القيامة أو الصراط أو الميزان أو
الصحائف المكتوبة فهو كافر، وكذا من قال بخلق القرآن فهو كافر"
.
وأحب هنا أن أقول بأن من تشكك من العلماء في كفر الخوارج عموما؛ فإنه لا يشك في كفر بعض الفرق منهم.
فالبدعية من الخوارج قصروا الصلاة على ركعة في الصباح وركعة في المساء.
والميمونة أجازت نكاح بعض المحارم التي علم تحريمها من الدين بالضرورة، ثم زادت فأنكرت سورة يوسف أنها من القرآن.
وفي
هؤلاء يقول ابن حزم: "وقد تسمى باسم الإسلام من أجمع جميع فرق الإسلام على
أنه ليس مسلما، مثل طوائف من الخوارج غلوا فقالوا: إن الصلاة ركعة بالغداة
وركعة بالعشي فقط، وآخرون استحلوا نكاح بنات البنين، وبنات بني الأخوة،
وبنات بني الأخوات، وقالوا: إن سورة يوسف ليست من القرآن.
وآخرون منهم قالوا: يحد الزاني والسارق ثم يستتابون من الكفر، فإن تابوا وإلا قتلوا"
.
ولا
شك أن هذا كفر صريح، لا يحتمل أي تأويل، ولا يقل عنهم في الكفر فرقة
اليزيدية، فإن إمامهم يزيد بن أنيسة "زعم أن الله سيبعث رسولا من العجم،
وينزل عليه كتابا من السماء يكتب في السماء، وينزل عليه جملة واحدة، فتترك
شريعة محمد ودان بشريعة غيرها، وزعم أن ملة ذلك النبي الصائبة وليس هذه
الصائبة التي عليها الناس اليوم، وليس هم الصابئين الذين ذكرهم الله في
القرآن ولم يأتوا بعد"
.
ويذكر
البغدادي أن يزيد "كان – مع هذه الضلالة – يتولى من شهد لمحمد صلى الله
عليه وسلم بالنبوة من أهل الكتاب، وإن لم يدخل في دينه، وسماهم بذلك
مؤمنين، وعلى هذا القول يجب أن يكون العيسوية والموشكانية من اليهود
مؤمنين؛ لأنهم أقروا بنبوة محمد عليه السلام ولم يدخلوا في دينه"
.
وهذا تناقض ظاهر من يزيد، إذ كيف يشهد بالإيمان ويتولى من شهد لمحمد صلى
الله عليه وسلم بالنبوة من أهل الكتاب وهو لم يدخل في الإسلام بل بقي على
دينه؟ ولهذا صدق عليه قول البغدادي: "وليس بجائز أن يعد في فرق الإسلام من
يعد اليهود من المسلمين، وكيف يعد من فرق الإسلام من يقول بنسخ شريعة
الإسلام"
.
ومما
يجدر ذكره أن هذه الفرقة قد عدها الأشعري والبغدادي والشهرستاني وابن حزم
من فرق الإباضية، وأن الإباضية منهم من وقف في يزيد، ومنهم من برئ منه،
وجلهم تبرأ منه، هكذا يقول الأشعري.
ويقول البغدادي: "وكان على رأي الإباضية من الخوارج، ثم إنه خرج عن قول جميع الأمة".
ويقول
ابن حزم: "قال أبو محمد: إلا أن جميع الإباضية يكفرون من قال بشيء من هذه
المقالات ويبرأون منه ويستحلون دمه وماله". ومن هنا رأينا علي يحيى معمر
يرد على ابن حزم بسبب نسبته هذه الفرقة إلى الإباضية، ويشنع عليه بأنه كيف
ساغ له نسبتها إلى الإباضية مع أنها تعتقد أقوالا تخرجها إلى الكفر، ثم كيف
ساغ له أن يجعلها من الإباضية وهو نفسه يقول: إن الإباضية تكفرها وتستحل
منها الدم والمال
.
والحقيقة
أن ابن حزم إنما ذكر ما ذكره قبله كتاب المقالات، مع أنه لا مانع في
الواقع من أن تنبت هذه الفرقة في أحضان الإباضية ثم تنحرف في عقائدها وتخرج
عن آرائها.
وقد كفر البغدادي فرقة الأزارقة، حيث يجعلها مع الفرق
الخارجة عن الإسلام كاليزيدية والميمونية، فبعد أن ذكر أحداثهم قال:
"وأكفرتهم الأمة في هذه البدع التي أحدثوها بعد كفرهم الذي شاركوا فيه
المحكمة الأولى، فباءوا بكفر على كفر، كمن باء بغضب على غضب، وللكافرين
عذاب مهين"
.
ومن أشهر بدعهم إنكارهم حد الرجم على المحصنين "إذ ليس في القرآن ذكره"
، بينما هو ثابت بالسنة من أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وعليه مضى الصحابة.
وقد
قال عمر رضي الله عنه: (إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق،
وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها وعقلناها
ووعيناها، فلذا رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن
طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله،
فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله)
.
فتكون هذه الآية التي ذكرها عمر بن الخطاب رضي الله عنه مما نسخت تلاوته وبقي حكمه.
وهذه
هي أقوال العلماء الذين كفروا الخوارج، أو كفروا بعض فرقهم، وتلك هي
مبررات تكفيرهم لهم، وترجع هذه المبرروات إلى ما اتصف به الخوارج من مروق
عن الدين، كما وصفتهم به الأحاديث النبوية، ولما ورد من قول الرسول صلى
الله عليه وسلم: ((ولأقتلنهم قتل عاد))
،وفي لفظ: ((ثمود))
، ولحكمهم على مخالفيهم بالكفر والتخليد في النار.
وكذا
تكفيرهم أعلام الصحابة رضوان الله عليهم ومحاربتهم عليا رضي الله عنه،
وكذلك نكرانهم لكثير مما ورد من أخبار الآخرة، ثم لما تميز به بعضهم من
آراء تخريجهم عن الإسلام صراحة: كالبدعة، والميمونة، واليزيدية.
والواقع
أن الحكم عليهم بالكفر لم يكن من قبل علماء السلف ومؤرخي الفرق فقط، وإنما
حكم به بعضهم على بعض أيضا، ولاسيما ما حكمت به فرقه الإباضية على غيرها
من الفرق كما سنرى، فلقد كانت لهذه الفرقة مواقف عدائية من كثير من فرق
الخوارج غير المحكمة، فإنها تتولاها وتترضى عنها وتعتبرها سلفهم الصالح،
أما ما عداها كالأزارقة والنجدات والصفرية وغيرهم، فإنها هي الفرق الخارجية
حقيقة في نظرهم، ولهذا فقد كفروهم ودارت بينهم وبين هذه الفرق المعارك
الدامية في بعض مراحلهم التاريخية.
فالأزارقة، وهي من أقدم الفرق
المشهورة للخوارج كانت عند الإباضية من أهل الضلال والتقول على الله
بالكذب، ومن المستحلين لكل ما حرم الله من دماء المسلمين وأموالهم
وأعراضهم، كما يصفونهم، وأنهم أول من خالف اعتقاد أهل الاستقامة (أي
الإباضية) وأنهم أول من شق عصا المسلمين وفرق جماعتهم.
يقول عنهم صاحب
(كتاب الأديان)، بعدما تقدم من أوصافهم: "ومما أضلهم الله به وأعمى
أبصارهم، أنهم أنزلوا أهل القبلة بمنزلة حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم
بمنزلة أهل الشرك وأهل الأوثان" – إلى أن يقول: "فترك نافع بن الأزرق
وأتباعه كتاب الله وسنة نبيه، وخالفوا سيرة المسلمين قبلهم"
،ولا يقل عنه في تكفير الأزارقة الورجلاني، فقد جعل الأحاديث الواردة في المارقة على الأزارقة، وأنهم هم المارقة حقيقة
.
أما
موقفهم من النجدات: فإن هذه الفرقة لم تكن عندهم أحسن حالا من سابقتها،
فقد تناولها صاحب (كتاب الأديان) المتقدم بالنقد، وذكر أحداثها التي
أحدثتها في الدين، وأن نجدة ذاته كما قال عنه: "قد انتحل أمورا لم يأذن
الله بها، ولم يرها المسلمون، قد ابتدع أمورا شرعها له الشيطان وزينها له"،
ولم يزل عدو الله نجده يبتدع القول حتى نقم عليه أصحابه فقتلوه ثم تفرقوا
فيما بينهم، ويقول فيهم وفي الأزارقة جميعا: "والكل منهم والحمد لله ضال
مضل، جاير حايد عن السبيل"
.
ومثلهم
الصفرية عند صاحب وفاء الضمانة، فإنهم عنده هم المقصودون بأحاديث المروق،
ولا تصدق إلا عليهم، مع أنه يذكر أن الإباضية والصفرية كانوا يدا واحدة في
النهروان، حتى أحدثوا استحلال دماء وأموال أهل المعاصي، فتركوهم، وذلك في
قوله: "وكان الصفرية مع أهل الحق منا في النهروان، ولما ظهر منهم استحلال
دماء أهل التوحيد وأموالهم بالكبائر أو بالمعاصي هاجروهم وفارقوهم"
.
وأحاديث
المروق التي أوردها المؤلف مشهورة لا حاجة إلى إعادتها هنا، إلا أنه لا
بأس أن نذكر حديثا استشهد به المؤلف كتبرير لحربهم الصفرية، وهو قوله: قال
صلى الله عليه وسلم: ((تكون أمتي فرقتين، فتخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولاهما بالحق))
، ثم قال: "وما زال أصحابنا من أهل عمان يقاتلون الصفرية"
.
ومثل
تلك الفروق في الضلال عند الإباضية فرقة الأعسمية أتباع زياد بن الأعسم،
فيذكر صاحب (كتاب الأديان) أنه خرج ناقما على الأزارقة والنجدية والعطوية
ويلعنهم، ثم تابعهم في أمور أهلكه الله بها.
"منها: أنه اعتبر حرب أهل
القبلة كحرب رسول الله مع أهل الأوثان، وأنه يرى قتل قومه سرا وعلانية،
وأنه تابع الأزارقة والنجدية والعطوية على أعظم ما استحلوا من الجور،
فتابعه على ذلك من تابعه حتى هلك، ولم يزل الشيطان يزين لهم حتى صيرهم شيعا
مفترقين، يقتل بعضهم بعضا، ويستحل بعضهم حرمة بعض، وشهد بعضهم على بعض
بالشك"، ونحو هذا قال أيضا في فرقة العطوية أتباع عطية بن الأسود المنشقة
عن النجدات
.
هذا آخر ما تيسر لي ذكره في الرأي الأول، وهو القول بتكفيرهم، والآن سنعرض أقوال الذين قالوا بعدم تكفيرهم.