سِّيد التابعين

سِّيد التابعين
«سعيد بن المسيب»
هو سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب.. ويكنى «أبا محمد».
وهو سيد التابعين، وأفضلهم.. وفقيه الفقهاء وأنبلهم.
ولدي -رضي الله عنه- بعد حوالي خمسة عشر عامًا من الهجرة.
أي بعد سنتين مضتا (وقيل بقيتا) من خلافة أمير المؤمنين «عمر بن الخطاب».
نشأ «ابن المسيب» نشأة دينية خالصة.. فشب عوده على الإيمان، ونمى جسمه على التقوى، وتعودت جوارحه على طاعة الله.
اهتم بالعلم والفقه، بجانب عمله في تجاره «الزيت».
فحفظ القرآن الكريم من أفواه الصحابة الأطهار.. فصار رجلاً صالحًا، وفقيهًا زاهدًا، ومؤمنًا صادقًا.. جادا في تعامله مع الناس.. لا يتكلم إلا إذا طُلب للكلام، ولا يتدخل إلا فيما يعنيه، ويكره كثرة الضحك.
كان حريصًا على كل أموره. حريصا على دوام طهارته، حتى إنه كان يتوضأ كلما بال (أي تبول).
وحريصًا على أداء الصلاة، فلم تَفُته صلاة الجماعة بالمسجد أكثر من أربعين عامًا متصلة.
وعرف «ابن المسيب» بأنه من أكثر الناس أدبًا وتأدبا في الحديث.
فقد جاءه رجلاً وهو مريض فسأله عن حديث، فجلس فحدثه ثم اضطجع.
فقال الرجل:
«وددت أنك لم تتعن» (أي تستقم).
فقال «ابن المسيب»: «كرهت أن أُحدثك عن رسول الله وأن مضطجع».
كل هذه الصفات جعلت من «ابن المسيب» مسلمًا ورعًا، وعالما عاليًا، وفقيهًا عملاقًا.
فلم يكن في التابعين أعلم أو أفقه منه.. حتى أنه كان يفتي وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزالون أحياء.
وكيف لا ؟! وقد كان أحفظ الناس لأحكام «عمر بن الخطاب وأقضيته».
وقد روى «ابن المسيب» أحاديث كثيرة من كبار الصحابة الأولين: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبي هريرة (وكان زوج ابنته) لذلك كان شديد الحذر في طلب الحديث، حتى أنه قال عن نفسه:
«كنت أرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد». وإلى جانب علمه الغزير، وفكره المستنير، كان «ابن المسيب» من أعرف الناس بتفسير الأحلام.
وقد أخذ ذلك عن السيدة «أسماء بنت أبي بكر». وأخذته «أسماء» عن أبيها «الصديق» -رضي الله عنه-.
ولعلنا في هذا المقام .. نذكر ثلاث مواقف (من عشرات المواقف) التي تعرض لها «ابن المسيب» في تفسيره للأحلام:
جاءه رجل يقُص عليه رؤيا. فقال: «إني أراني أبول (أي أتبول) في يدي!!
فقال له «ابن المسيب»: «اتق الله. فإن تحتك ذات محرم».
ونظر الرجل .. وتحقق .. فإذا بزوجته بينها وبينه رضاع.!!
وجاءه آخر يقول أنه رأى في النوم كأنه يخوض النار!!، فقال له «ابن المسيب».
«إن صدقت رؤياك لا تموت حتى تركب البحر وتموت قتلاً»!
وبعد فترة من الزمن.. ركب الرجل البحر، فأشفى على الغرق والهلاك.. وقتل يوم «قديد» بالسيف.
وجاءه ثالث يقول: «يا أبا محمد إني رأيت كأني جالس في الظل، فقمت إلى الشمس». فقال له «ابن المسيب»: «والله لئن صدقت رؤياك لتخُرجَن من الإسلام»!! ويخرج «الرجل» في زمان «عبد الملك بن مروان».. فيؤثر .. ويكُره على الكفر.
وتمر الأيام «بابن المسيب» .. وهو يعلم الناس، ويفتيهم في أمور دينهم.. ودنياهم.. حتى صعدت روحه الطاهرة إلى ربها راضية مرضية.. بعد أربع وتسعين سنة، وهو بالمدينة المنورة.. أيام خلافة «الوليد بن عبد الملك».. وعمره نحو خمس وسبعين سنة.
وقد عرفت تلك السنة بسم «سنة الفقهاء» لكثرة من مات منهم فيها.
مات «ابن المسيب».. العالم .. العلاَّمة.. والفيلسوف الذي نصحنا فقال:
«لا تملأوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بالإنكار من قلوبكم، لكي لا تحبط أعمالكم الصالحة».
وحذرنا من فتنة النساء فقال: «ما يئس الشيطان من شيء إلا أتاه من قبل النساء». ووصف لنا الدنيا فقال:
«الدنيا نذلة (أي حقيرة) وهي لكل نذل أَمْيَل، وأنذل منها من أخذها من غير وجهها ووضعها في غير سبيلها».
كذلك كان «سعيد بن المسيب». المؤمن القوي.
الذي زوَّج ابنته لشاب فقير من قريش لم يمهرها سوى درهمين.. رغم أنها من أحسن النساء جمالا، وأكثرهن أدبا، وأعلمهن بكتاب الله وسُنة رسوله، وأعرفهن بحق الزوج.
وكان عبد الملك بن مروان قد خطبها لابنه «الوليد» ورفض «ابن المسيب» أن يزوجه بها.. وتحمل احتياله عليه.. وسجنه.. وضربه بالسياط.
رحم الله «سيِّد التابعين».. و«فقيه الفقهاء».
الرجل الذي كان ينصح الناس دواما (وياليتنا نسمع منه ونعمل) وهو يقول:
«ما أكرمت العباد أنفسها بمثل طاعة الله.. ولا أهانت أنفسها إلا بمعصية الله»!.