قدمنا فيما مضى أدلة الخوارج من القرآن الكريم على بدعتهم في تكفير العصاة
من أهل الذنوب، والآن سنستعرض أدلتهم من السنة النبوية مع إبطال ما استدلوا
به ورد شبهاتهم حول الأحاديث التي استندوا إليها في تلك البدعة
.
ومن هذه الأحاديث:
1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه عند البخاري ((أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا
يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع
الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن ))
.
فقد فهم الخوارج من هذا الحديث نفي الإيمان عن مرتكبي هذه المعاصي نفيا
تاما، وإذا نفي عنهم الإيمان فإنهم يكونون من الكفار ذلك أن الكفر والإيمان
نقيضان إذا انتفى أحدهما ثبت الآخر.
والواقع أن قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني.. إلخ))
- جاء مقيدا لنفي الإيمان بحين مواقعة الزنا، ومقتضاه كما يقول ابن حجر: "أنه لا يستمر بعد فراغه" قال: "وهذا هو الظاهر"
.
ويؤيد
هذا ما ورد من روايات كثيرة عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما تفيد
رفع الإيمان عن الشخص المقترف لجريمة الزنا في حالة مواقعته له ويكون فوقه
كالظلة، فإذا أقلع عاد إليه.
وهذا المعنى على فرض أن الحديث لا كلام في
صحته، بينما الواقع أن فيه كلاما كثيرا للعلماء، قال الطبري: "اختلف الرواة
في أداء لفظ هذا الحديث وأنكر بعضهم أن يكون صلى الله عليه وسلم قاله"
.
ويرى
ابن حجر أن الحديث مصروف عن ظاهره وذلك لاختلاف الحكم في حد الزنا وتنوعه،
فقال: "ومن أقوى ما يحمل على صرفه عن ظاهره إيجاب الحد في الزنا على أنحاء
مختلفة، في حق الحر المحصن والحر البكر وفي حق العبد، فلو كان المراد بنفي
الإيمان ثبوت الكفر لاستووا في العقوبة؛ لأن المكلفين فيما يتعلق بالإيمان
والكفر سواء"
.
ويذكر
النووي أن "هذا الحديث مما اختلف العلماء في معناه"، ثم يذكر أن الصحيح من
هذه المعاني هو نفي أن يكون الفاعل كامل الإيمان ولا عبرة عنده بتلك
الاختلافات، "فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه لا يفعل هذه
المعاصي وهو كامل الإيمان".
ثم يذكر أن السبب الحامل له على هذا التأويل ورود نصوص كثيرة تشهد بخلافه فيقول: "وإنما تأولناه على ما ذكرناه لحديث أبي ذر وغيره: ((من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق))
. وحديث عبادة بن الصامت الصحيح المشهور: ((أنهم
بايعوه صلى الله عليه وسلم على أن لا يسرقوا ولا يزنوا ولا يعصوا... إلى
آخره. ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم: فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن
فعل شيئا من ذلك فعوقب في الدنيا فهو كفارته، ومن فعل ولم يعاقب فهو إلى
الله تعالى إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه))
. فهذان الحديثان مع نظائرهما في الصحيح، مع قول الله عز وجل: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 48]،
مع إجماع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر
غير الشرك لا يكفرون بذلك بل هم مؤمنون ناقصوا الإيمان، إن تابوا سقطت
عقوبتهم وإن ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة فإن شاء الله تعالى
عفا عنهم وأدخلهم الجنة أولا، وإن شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة. وكل هذه
الأدلة تضطرنا إلى تأويل هذا الحديث وشبهه".
وهذا التأويل كما يقول:
"ظاهر سائغ في اللغة مستعمل فيها كثيرا"، وهناك أقوال للعلماء في تأويله
تلمسوها باجتهادهم وهي محتملة إلا أن بعضها غلط، قال النووي ينبغي تركه فقد
"تأول بعض العلماء هذا الحديث على من فعل ذلك مستحلا له مع علمه بورود
الشرع بتحريمه"، وبعضهم قال: "ينزع منه اسم المدح الذي يسمى به أولياء الله
المؤمنين، ويستحق اسم الذم فيقال: سارق، وزان، وفاجر، وفاسق".
"وحكي عن
ابن عباس رضي الله عنهما أن معناه ينزع منه نور الإيمان، وقال المهلب:
ينزع منه بصيرته في طاعة الله تعالى، وذهب الزهري إلى أن هذا الحديث وما
أشبهه يؤمن بها ويمر على ما جاءت ولا يخاض في معناها وإنا لا نعلم معناها.
وقال: أمروها كما أمرها من قبلكم".
وقال النووي بعد أن أورد تلك الآراء:
"وقيل في معنى الحديث غير ما ذكرته مما ليس بظاهر بل بعضها غلط فتركتها،
وهذه الأقوال التي ذكرتها في تأويله كلها محتملة والصحيح في معنى الحديث ما
قدمناه أولاً"
.
وقد زاد ابن حجر فذكر أقوالا منها:
1-
أن هذا الحديث "خبر بمعنى النهي"، والمعنى: لا يزنين مؤمن ولا يسرقن مؤمن.
وقد أخرجه الطبري من طريق محمد بن زيد بن واقد بن عبدالله بن عمر.
2- "أن يكون بذلك منافقا نفاق معصية لا نفاق كفر"، ويعزى هذا الرأي إلى الأوزاعي.
3- أن معنى نفي كونه مؤمنا أنه شابه الكافر في عمله.
4- معنى قوله ليس بمؤمن أي ليس بمستحضر في حالة تلبسه بالكبيرة جلال من آمن به.
5- معنى نفي الإيمان نفي الأمان من عذاب الله.
6- أن المراد به الزجر والتنفير ولا يراد ظاهره.
7- أنه يسلب الإيمان حال تلبسه بالكبيرة، فإذا فارقها عاد إليه.
وقد
تبين المازري فائدة هذه التأويلات بأنها "تدفع قول الخوارج ومن وافقهم من
الرافضة أن مرتكب الكبيرة كافر مخلد في النار إذا مات من غير توبة، وكذا
قول المعتزلة إنه فاسق مخلد في النار؛ فإن الطوائف المذكورين تعلقوا بهذا
الحديث وشبهه وإذا احتمل ما قلناه اندفعت حجتهم"
.
وقد أشار ابن حجر رحمه الله إلى الجمع بين حديث: ((لا يشرب الخمر وهو مؤمن))،
وبين قوله صلى الله عليه وسلم في رجل يسمى عبدالله ويلقب حمارا كان يشرب
الخمر، فلما جلده رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رجل من القوم: اللهم
العنه ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تلعنوه فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله))
: أن المراد به – كما قال ابن حجر- نفي كمال الإيمان لا أنه يخرج عن الإيمان جملة
.
2-
واستدل الخوارج على تكفير أهل الذنوب بما ورد في الأحاديث التي يدل ظاهرها
على تكفير المسلمين المتقاتلين فيما بينهم، وذلك كما جاء في حديث جابر بن
عبدالله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: ((لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض))
، فحملوه على أنه وارد في تكفير الموصوفين بما ذكر.
وللعلماء في معنى هذا الحديث سبعة أقوال وهي:
1- أن ذلك كفر في حق المستحل بغير حق.
2- أن المراد كفر النعمة وحق الإسلام.
3- أنه يقرب من الكفر ويؤدي إليه.
4- أنه فعل كفعل الكفار.
5- المراد حقيقة الكفر، ومعناه لا تكفروا بل دوموا مسلمين.
6- حكاه الخطابي وغيره أن المراد بالكفار المتكفرون بالسلاح، وهذا بعيد فيما يظهر.
7- وهو للخطابي أيضا أن معناه لا يكفر بعضكم بعضا فتستحلوا قتال بعضكم بعضا
.
وقد
رجح النووي من تلك الأقوال القول الرابع وهو أن فعل القتل يشبه فعل
الكفار، ويقول ابن حزم أن الحديث على ظاهره وإنما في هذا اللفظ النهي على
أن يرتدوا بعده إلى الكفر فيقتتلوا في ذلك فقط، وليس في هذا اللفظ أن
القاتل كافر"
.
وهذا
– حسب ما ظهر لي- هو أحسن الأقوال وأقربها إلى معنى الحديث أي أن المنع
متوجه إلى النهي عن أن يرتدوا إلى الكفر، الذي يترتب عليه ضرب بعضهم رقاب
بعض لعدم المانع لهم حينئذ وهو الإسلام. ومثل قول ابن حزم في القوة الأول
والسابع من الأقوال التي ذكرها النووي رحمه الله.
وقول الخوارج بتكفير
المتقاتلين غير سديد، فقد سمى الله المتقاتلين من المؤمنين إخوانا مع أنهم
من أهل الكبائر بتلك المقاتلة، فقال تعالى مخاطبا جميع المؤمنين بما فيهم
القتلة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ
بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ
فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ
تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ
فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة: 178].
فقد
خاطب الله الناس بوجوب القصاص واصفا لهم جميعاً بالإيمان بما فيهم القتلة،
وقد نص تعالى في هذه الآية على أن القاتل الذي وجب عليه القصاص وولي
المقتول أخوان، وقد سمى المتقاتلين مؤمنين بقوله تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9]، وقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10].
3- واستدلوا أيضاً بحديث عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر))
.
يطلق
الفسق في الشرع على الخروج عن الطاعة. والسباب من الأمور القبيحة وأقبح ما
يكون إذا كان بغير حق فإنه "حرام بإجماع الأمة وفاعله فاسق كما أخبر النبي
صلى الله عليه وسلم".
قال النووي: "وأما قتاله بغير حق فلا يكفر به عند
أهل الحق كفرا يخرج به من الملة كما قدمناه في مواضع كثيرة إلا إذا
استحله، فإذا تقرر هذا فقيل في تأويل هذا الحديث أقوال:
أ- أنه في المستحل.
ب- أن المراد كفر
الإحسان والنعمة وأخوة الإسلام لا كفر الجحود.
ج- أنه يؤول إلى الكفر بشؤمه.
د- أنه كفعل الكفار.
4- واستدل الخوارج بقوله صلى الله عليه وسلم: ((أيما امرىء قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه))
،
وما ورد في معناه من أحاديث، مذهب السلف أهل الحق أنه لا يكفر المسلم
بالمعاصي والسباب نوع من أنواع المعاصي، ولهذا فقد ذكر النووي رحمه الله أن
"هذا الحديث مما عده بعض العلماء من المشكلات من حيث أن ظاهره غير مراد".
ثم ذكر أوجهاً لتأويله وهي:
1- أن يكون الحديث وارداً في حق من استحل تكفير أخاه المسلم معتقداً ذلك.
2- أن يكون المراد رجوع معصية تكفيره ونقيصته عليه هو.
3- التحذير من أن يسترسل الشخص في مثل هذا القول فيؤول به إلى الكفر؛ لأن المعاصي كما قيل بريد الكفر
.
4- واستدل الخوارج على تكفير مرتكبي الكبائر بحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من
قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً
فيها أبداً، ومن شرب سماً فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالداً فيها
أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً
فيها أبداً))
.
قال النووي: "وأما قوله صلى الله عليه وسلم فهو في نار جهنم خالدا مخلداً فيها أبداً فقيل فيه أقوال:
1- أنه محمول على من فعل ذلك مستحلا مع علمه بالتحريم، فهذا كافر وهذه عقوبتهم.
2- أن المراد بالخلود طول المدة والإقامة المتطاولة لا حقيقة الدوام كما يقال: خلد الله ملك السلطان.
3- أن هذه جزاؤه ولكن تكرم سبحانه وتعالى فأخبر أنه لا يخلد في النار من مات مسلماً"
.
وأهل السنة على أن قاتل نفسه ليس بكافر كما في حديث جابر رضي الله عنه: ((أن
الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله،
هل لك في حصن حصين ومنعة، قال: حصن كان لدوس في الجاهلية، فأبى ذلك النبي
صلى الله عليه وسلم للذي ذخر الله للأنصار". فلما هاجر النبي عليه السلام
إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه، فاجتووا
المدينة فمرض فجزع فأخذ مشاقص له فقطع بها براجمه
،
فشخبت يداه حتى مات، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه فرآه وهيئته حسنه ورآه
مغطياً يديه، فقال له: ما صنع بك ربك فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه عليه
السلام. فقال: ما لي أراك مغطياً يديك، قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت،
فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم:اللهم وليديه فاغفر))
.
قال
النووي: إن في الحديث "حجة لقاعدة عظيمة لأهل السنة أن من قتل نفسه أو
ارتكب معصية غيرها ومات من غير توبة فليس بكافر ولا يقطع له بالنار، بل هو
في حكم المشيئة"، قال: "وهذا الحديث شرح للأحاديث التي قبله الموهم ظاهرها
تخليد قاتل النفس وغيره من أصحاب الكبائر"
.