شبهة حول زواج النبي صلى اللـه عليه وسلم من زينب بنت جحش والرد عليها
الحمد لله والصلاة و الصلاة و السلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
أحبتي
في الله شاء الله عز وجل ولا مرد لمشيئته أن يطلق زيد بن حارثة زوجته
حينما تعذر بقاء الحياة الزوجية بينه و بينها على الوجه المطلوب ، و مضت
سنة الله في خلقه أن ما رسخ في النفوس بحكم العادة لا يسهل التخلص منه ،
فقد كانت عادة التبني لا تزال قائمة في نفوس الناس ، و ليس من السهل التغلب
على الآثار المترتبة عليها ، و من أهم هذه الآثار أن الأب لا يتزوج امرأة
من تبناه بعد وفاته أو طلاقه لزوجته ، فاختار الله تعالى لهذه المهمة صاحب
الرسالة صلى الله عليه وسلم و أمره بالزواج من زينب بنت جحش بعد طلاقها من
زيد .
و
بعد أن تزوج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب رضي الله عنها ، أثار هذا
الزواج أحاديث همز و لمز و أقاويل كثيرة من قبل المشركين والمنافقين ، فقد
قالوا : تزوج محمد حليلة ابنه زيد بعد أن طلقها ، كما وأن للمستشرقين و من
شايعهم في العصر الحاضر ، أحاديث في هذا الموضوع ، فاتخذوا من هذه الحادثة
ذريعة للطعن في رسول الله صلى الله عليه و سلم .
والذي
أريد أن أتحدث عنه اليوم هو الرد على هؤلاء المستشرقين الذين اتخذوا من
هذه القضية مدخلاً للطعن في نبي الله صلى الله عليه وسلم ، كما و أنهم
تناولوا زواجه صلى الله عليه وسلم بهذا العدد ، فجعلوا منه مادة للنيل منه
صلى الله عليه وسلم ، و وصفوه بأشياء ينبو عنها القلم .
و
لما كان هذا الأمر من الخطورة بمكان لتعلقه بأشرف خلق الله على الإطلاق - و
كان كل من يطلق لسانه في هذا الصدد يقول : لسنا نبتدع شيئاً ، فها هي كتب
التفسير و كتب السير تحكي ذلك - ، لذا سأقوم الآن بعرض تلك الروايات التي
اعتمدوا عليها رواية رواية ، متبعاً كل رواية منها ببيان ما وجّه لأسانيدها
من نقد ، ثم أتبع ذلك بنقدها جميعاً من جهة متونها ، و موقف الأئمة
المحققين من هذه الروايات .
يقول
الله تعالى { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك
واتق الله ، و تخفي في نفسك ما الله مبديه ، و تخشى الناس والله أحق أن
تخشاه ، فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لي لا يكون على المؤمنين حرج في
أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً وكان أمر الله مفعولاً } [الأحزاب/37].
إن
السبب في طلاق زيد لزينب ومن ثم زواج النبي صلى الله عليه وسلم منها ؛ هو
ما كان بين زيد و بين زينب من خلافات ، و أنه لم يكن بينهما وئام يؤمل معه
أن تبقى الحياة الزوجية بينهما ، فطلقها بمحض اختياره و رغبته ، و كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم ينهاه عن ذلك ، و قد كان الله عز وجل قد أعلم
نبيه صلى الله عليه وسلم أن زيداً سيطلق زينب ، و أنه ستكون زوجة له ، و
أنه صلى الله عليه وسلم كان يخفي هذا و يخشى من مقولة الناس ، أنه تزوج
مطلقة من كان يدعى إليه ، فعاتبه ربه على ذلك . انظر : جامع البيان للطبري
(22/11) و تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/489) ، و انظر البخاري ( برقم
4787) .
خلاصة
ما جاء في كتب التفسير والتي استدل بها المستشرقون أن هناك سبباً آخر
لطلاق زينب ، هو أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى زينب فجأة و هي في ثياب
المنزل فأعجبته ، و وقع في قلبه حبها ، فتكلم بكلام يفهم منه ذلك ، إذ سمعه
زيد فبادر إلى طلاقها تحقيقاً لرغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و أن
زيداً شاوره في طلاقها ، و كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاه عن ذلك ،
لكن في قلبه ضد هذا ، و أنه كان راغباً في طلاق زيد لها ليتزوجها ، و فوق
ذلك فقد أقر الله رسوله على ما فعل ، بل عاتبه لِمَ يخفي هذا والله سيبديه .
و
رغم شناعة ما جاء في هذه الروايات ، و هذا الفهم للآية الكريمة التي تتحدث
عن طلاق زيد لزينب و زواج النبي صلى الله عليه وسلم بها ، إلا أنه قد جاز
على أئمة فضلاء ، ففسروا به الآية الكريمة ، وأثبتوا ذلك صراحة في كتبهم
وتفاسيرهم .
ومن هؤلاء الأئمة :
ابن جرير الطبري في كتابه جامع البيان (22/12) ، عند تفسيره الآية ولم يذكر غيره .
و منهم : الرازي في تفسيره (13/184) ، حيث ذكر نحواً من كلام ابن جرير .
ومنهم : ابن القيم في كتابه الجواب الكافي (ص 247) ، حيث ذكره في معرض سوقه لحكايات في عشق السلف الكرام والأئمة الأعلام .
ومنهم : الزمخشري في تفسيره (3/262) .
وأحسن
ما يعتذر به عن هؤلاء الأئمة وأتباعهم ممن ذهب يفسر الآية بهذا ، أنهم
عدوا هذا منه صلى الله عليه وسلم من عوارض البشرية ، كالغضب والنسيان ، و
لكنهم لم يستحضروا شناعة هذا التفسير للآية ، و نسبة ذلك لرسول الله صلى
الله عليه وسلم ، و لم يدققوا في الروايات التي وصلتهم من جهة أسانيدها و
متونها كما فعل غيرهم ، ونحن نسأل الله أن يثيبهم على اجتهادهم وأن يغفر
لهم .
والآن إلى نقد الروايات ..
الرواية الأولى :
ذكرها
ابن سعد في طبقاته (8/101) و من طريقه ساقها ابن جرير في تاريخه (3/161) :
قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : حدثني عبد الله بن عامر الأسلمي ، عن
محمد بن يحيى بن حبان ، قال : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت زيد بن
حارثة يطلبه ، و كان زيد إنما يقال له : زيد بن محمد ، فربما فقده رسول
الله صلى الله عليه وسلم الساعة فيقول : أين زيد ؟ فجاء منزله يطلبه ، فلم
يجده ، و تقوم إليه زينب بنت جحش زوجته فُضُلاً أي وهي لابسة ثياب نومها - ،
فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها ، فقالت : ليس هو هاهنا يا رسول
الله فادخل بأبي أنت وأمي ، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل ، و
إنما عجلت أن تلبس لما قيل لها : رسول الله صلى الله عليه وسلم على الباب
فوثبت عجلى ، فأعجبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فولى و هو يهمهم بشيء
لا يكاد يفهم منه إلا : سبحان مصرّف القلوب ، فجاء زيد إلى منزله ، فأخبرته
امرأته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منزله ، فقال زيد : ألا قلت
له أن يدخل ؟ قالت : قد عرضت ذلك عليه فأبى ، قال : فسمعت شيئاً ؟ قالت :
سمعته يقول حين ولى تكلم بكلام لا أفهمه ، و سمعته يقول : سبحان الله
العظيم ، سبحان مصرف القلوب ، فجاء زيد حتى أتى رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، فقال : يا رسول الله بلغني أنك جئت منزلي فهلا دخلت ؟ بأبي وأمي يا
رسول الله ، لعل زينب أعجبتك فأفارقها ، فيقول رسول الله : أمسك عليك زوجك ،
فما استطاع زيد إليها سبيلاً بعد ذلك اليوم ، فيأتي إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فيخبره ، فيقول رسول الله : أمسك عليك زوجك ، فيقول : يا
رسول الله أفارقها ، فيقول رسول الله : احبس عليك زوجك ، ففارقها زيد
واعتزلها و حلت يعني انقضت عدتها قال : فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم
جالس يتحدث مع عائشة ، إلى أن أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم غشية ،
فسري عنه و هو يبتسم و هو يقول : من يذهب إلى زينب يبشرها أن الله قد
زوجنيها من السماء ؟ وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { وإذ تقول للذي
أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك ..} الآية ، القصة كلها .
قالت
عائشة : فأخذني ما قرب و ما بعد لما يبلغنا من جمالها ، وأخرى هي أعظم
الأمور وأشرفها ما صنع الله لها ، زوجها الله من السماء ، و قلت : هي تفخر
علينا بهذا ، قالت عائشة : فخرجت سلمى خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم
تشتد فتحدثها بذلك ، فأعطتها أوضاحاً حلي من الفضة عليها .
وإسناد هذه الرواية فيه علل ثلاث ، واحدة منها تكفي لرد هذه الرواية :
العلة الأولى :
أنها مرسلة ، فمحمد بن يحيى بن حبان تابعي ، يروي عن الصحابة ، و يروي
أيضاً عن التابعين ، كعمر بن سليم و الأعرج ، و غيرهما ، (ت 121 هـ ) و
عمره ( 74 سنة ) ، فهو لم يدرك القصة قطعاً و لم يذكر من حدثه بها .
التهذيب (9/507-508 ) .
العلة الثانية :
عبد الله بن عامر الأسلمي ، ضعيف بالاتفاق ، بل قال فيه البخاري : ذاهب
الحديث ، و قال أبو حاتم : متروك . التهذيب (5/275) ، و ميزان الاعتدال
(2/448) .
العلة الثالثة :
محمد بن عمر ، و هو الواقدي ، إخباري كثير الرواية ، لكنه متروك الحديث ،
ورماه جماعة من الأئمة بالكذب و وضع الحديث . ميزان الاعتدال (3/664) .
الرواية الثانية :
ذكرها
ابن جرير في تفسيره (22/13 ) قال : حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ،
قال : قال ابن زيد : كان النبي صلى الله عليه وسلم قد زوّج زيد بن حارثة
زينب بنت جحش بنت عمته ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يريده
وعلى الباب ستر من شعر ، فرفعت الريح الستر فانكشفت و هي في حجرتها حاسرة ،
فوقع إعجابها في قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما وقع ذلك كرهت الآخر ،
فجاء فقال : يا رسول الله إني أريد أن أفارق صاحبتي ، قال : مالك ؟ أرابك
منها شيء ؟ قال : لا ، والله ما رابني منها شيء يا رسول الله ، ولا رأيت
إلا خيراً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمسك عليك زوجك واتق الله
، فذلك قول الله تعالى { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك
عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه } ، تخفي في نفسك إن
فارقها تزوجتها .
و هذه الرواية فيها علتان :
العلة الأولى : أنها معضلة ، فابن زيد و هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ليس بصحابي ولا تابعي ، فقد سقط من الإسناد راويان أو أكثر .
العلة الثانية :
أن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هذا ضعيف باتفاق المحدثين ، بل صرح بعضهم
بأنه متروك الحديث ، قال البخاري وأبو حاتم : ضعفه علي بن المديني جداً ،
وقال أبو حاتم : كان في الحديث واهياً ، و جاء عن الشافعي أنه قال : قيل
لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : حدثك أبوك عن جدك أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : إن سفينة نوح طافت بالبيت و صلت خلف المقام ركعتين ؟ قال : نعم
. و لهذا لما ذكر رجل لمالك حديثاً منقطعاً قال له : اذهب إلى عبد الرحمن
بن زيد يحدثك عن أبيه عن نوح . و أقوال الأئمة في تضعيفه كثيرة ، و هو رجل
صالح في نفسه لكنه شغل بالعبادة والتقشف عن حفظ الحديث فضعف جداً . التهذيب
(6/178) . و يروى عنه شيء كثير في التفسير ، فما كان من رأيه في فهم
القرآن ، فهذا ينظر فيه ، وأما ما يرويه مسنداً فغير مقبول ، فكيف إذا أرسل
الحديث ؟! .
الرواية الثالثة :
ذكرها
أحمد في مسنده (3/149-150) ، قال : حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال : حدثنا
حماد بن زيد ، قال : حدثنا ثابت عن أنس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه
وسلم منزل زيد بن حارثة فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأته زينب ،
وكأنه دخله لا أدري من قول حماد أو في الحديث فجاء زيد يشكوها إليه ، فقال
له النبي صلى الله عليه وسلم : أمسك عليك زوجك واتق الله ، قال : فنزلت {
واتق الله و تخفي في نفسك ما الله مبديه } إلى قوله { زوجناكها } يعني زينب
.
مؤمل
بن إسماعيل قواه بعض الأئمة ، و وصفه أكثرهم بأنه كثير الخطأ يروي
المناكير ، قال يعقوب بن سفيان : حديثه لا يشبه حديث أصحابه ، و قد يجب على
أهل العلم أن يقفوا عن حديثه ، فإنه يروي المناكير عن ثقات شيوخه ، و هذا
أشد ، فلوا كانت هذه المناكير عن الضعفاء لكنا نجعل له عذراً .
و قال محمد بن نصر المروزي : المؤمل إذا انفرد بحديث وجب أن يتوقف و يتثبت فيه ، لأنه كان سيء الحفظ كثير الغلط . التهذيب (10/381) .
و
حديثه هذا قد رواه جماعة من الثقات من أصحاب حماد فلم يذكروا أول الحديث ،
وإنما ذكروا مجيء زيد يشكوا زينب ، و قول النبي صلى الله عليه وسلم له ، و
نزول الآية . البخاري (برقم 7420) والترمذي ( برقم 3212) والنسائي ( برقم
11407) .
الرواية الرابعة :
رواها
ابن جرير في تفسيره (22/13) ، قال : حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال :
حدثنا سعيد عن قتادة : { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه } و هو زيد أنعم
الله عليه بالإسلام : { وأنعمت عليه } أعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم :
{ أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه } ، قال : وكان
يخفي في نفسه ودّ أنه طلقها ، قال الحسن : ما أنزلت عليه آية كانت أشد منها
قوله { واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه } ، و لو كان نبي الله صلى
الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي لكتمها { وتخشى الناس والله أحق أن
تخشاه } ، قال خشي نبي الله صلى الله عليه وسلم مقالة الناس .
و
روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة هذه القصة مختصرة ، قال : جاء زيد بن
حارثة فقال : يا رسول الله إن زينب اشتد عليّ لسانها ، وأنا أريد أن أطلقها
، فقال له : اتق الله وأمسك عليك زوجك ، قال : والنبي صلى الله عليه وسلم
يحب أن يطلقها و يخشى مقالة الناس . فتح الباري (8/524) .
وقتادة
هو بن دعامة السدوسي أحد الأئمة الحفاظ ، مشهور بالتفسير ، فما فسره من
فهمه للآيات فينظر فيه ، وما ذكره رواية فإن العلماء أخذوا عليه كثرة
التدليس ، فاشترطوا لصحة حديثه أن يصرح بالسماع ، و هذا إذا ذكر الإسناد ،
فإما ما يرسله ولا يذكر بعده في الإسناد أحداً كما في روايته لهذه القصة
فهو ضعيف جداً ، قال الشعبي : كان قتادة حاطب ليل ، و قال أبو عمرو بن
العلاء : كان قتادة وعمرو بن شعيب لا يغث عليهما شيء ، يأخذان عن كل أحد .
التهذيب (8/351-356 ) . و كان يحيى بن سعيد القطان لا يرى إرسال الزهري
وقتادة شيئاً ، و يقول : هو بمنزلة الريح . جامع التحصيل في أحكام المراسيل
للعلائي ( ص 101 ) .
على
أن روايته لتفسير الآية ليس فيه تفصيل كما في الروايات الأخرى ، و يمكن رد
روايته إلى الروايات الصحيحة في تفسير الآية ، فيكون معنى ( أحب ) و ( ودّ
) أي علم أن زيداً سيطلقها ولا بد بإلهام الله له ذلك ، وتكون خشيته من
مقالة الناس حينئذٍ أن يقولوا : تزوج حليلة ابنه .
الرواية الخامسة :
ذكرها
القرطبي في تفسيره (14/190) قال مقاتل : زوّج النبي صلى الله عليه وسلم
زينب بنت جحش من زيد فمكثت عنده حيناً ، ثم إنه عليه السلام أتى زيداً
يوماً يطلبه ، فأبصر زينت قائمة ، و كانت بيضاء جميلة جسيمة من أتمّ نساء
قريش ، فهويها وقال : سبحان الله مقلب القلوب ، فسمعت زينب بالتسبيحة
فذكرتها لزيد ، ففطن زيد فقال : يا رسول الله ائذن لي في طلاقها ، فإن فيها
كبراً ، تعظم عليّ و تؤذيني بلسانها ، فقال عليه السلام : أمسك عليك زوجك
واتق الله ، و قيل : إن الله بعث ريحاً فرفعت الستر و زينب مُتَفَضَّله في
منزلها ، فرأى زينب فوقعت في نفسه ، و وقع ف ينفس زينب أنه وقعت في نفس
النبي صلى الله عليه وسلم ن و ذلك لما جاء يطلب زيداً ، فجاء زيد فأخبرته
بذلك ، فوقع في نفس زيد أن يطلقها .
هذه
الرواية لم يذكروا لها إسناداً إلى مقاتل ، و لو صحت إلى مقاتل لم يفدها
شيئاً ، فإن مقاتلاً و هو مقاتل بن سليمان فيما يظهر قد كذبه جمع من الأئمة
و وصفوه بوضع الحديث ، و تكلوا في تفسيره . أنظر ترجمته في التهذيب
(10/279-285 ) .
الرواية السادسة :
قال
ابن إسحاق : مرض زيد بن حارثة فذهب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
يعوده و زينب ابنة جحش امرأته جالسة عن رأس زيد ، فقامت زينب لبعض شأنها ،
فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طأطأ رأسه ، فقال : سبحان مقلب
القلوب والأبصار ، فقال زيد : أطلقها لك يا رسول الله ، فقال : لا ، فأنزل
الله عز وجل { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه ...} إلى قوله
{وكان أمر الله مفعولاً } . تعدد نساء الأنبياء و مكانة المرأة في اليهودية
والمسيحية والإسلام اللواء أحمد عبد الوهاب ( ص 68 ) .
هذه الرواية لم يذكروا لها إسناداً ، و لم أقف عليها في سيرة ابن هشام .
و بعد أن تبين ضعف هذه الروايات و سقوطها من جهة أسانيدها ، فلننظر فيها من جهة متونها وما فيها من اضطراب و نكارة ، من عدة وجوه :-
الوجه الأول :
تناقض الروايات المذكورة ، ففي بعضها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار
زيد بن حارثة و هو غائب فاستقبلته زينب ، و في بعضها أن زيداً كان مريضاً ،
فزاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و كان عليه أفضل الصلاة وأتم
التسليم جالساً هو و زيد و زينب ، فكيف يكون زيد غائباً و مريضاً في فراشه
في وقت واحد .؟!
الوجه الثاني :
والروايات التي ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار زيداً اختلفت في
كيفية رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لزينب رضي الله عنها ، فرواية تقول
بأنه كان واقفاً بالباب فخرجت إليه ، و رواية بأنه كان واقفاً بباب زيد
فرفعت الريح ستر الشعر فرآها فأعجبته .
الوجه الثالث :
تتفق الروايات على أن إعجاب النبي صلى الله عليه وسلم بزينب و وقوع حبها
في قلبه جاء متأخراً ، أي بعد أن تزوجها زيد رضي الله عنه ، و هذا شيء عجيب
، فلقد ولدت زينب و رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاوز الثانية عشرة من
عمره ، و شبت وترعرعت أمامه ، فهي ابنة عمته ، ألم يلحظ مفاتنها إلا
متأخراً ، و بعد أن صارت زوجة لدعيّه ، و هو الذي زوجها له ، والحجاب لم
ينزل بعد ، فقد نزل صبيحة عرسها ، ألا يكون شاهدها ، فلوا كان يهواها أو
وقعت في قلبه لما منعه شيء من زواجها ، فإشارة منه صلى الله عليه وسلم
كافية لأن يقدموها له ، بل قد ورد أنه وهبت نفسها له . أنظر كلام ابن
العربي حول هذا الوجه في كتابه أحكام القرآن (3/1543) .
الوجه الرابع :
لو افترضنا جدلاً أن حبها وقع في قلبه صلى الله عليه وسلم متأخراً بعد
رؤيته لها عند زيد بن حارثة ، فبأي شيء يمكن تفسير ما صدر منه صلى الله
عليه وسلم و فهم منه زيد و زينب أنها وقعت في قلبه ، سواء كان ذلك تسبيحاً
أو طأطأة للرأس ، أو غير ذلك ؟! كيف ذلك و هو الذي نهى عن أن يخبب الرجل
امرأة غيره عليه ؟ أفيعمل ما قد نهى أمته عنه ؟! فعن أبي هريرة رضي الله
عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من خبب زوجة امرئ أو
مملوكه فليس منا ) أبو داود ( برقم 5170) بسند صحيح .
ولو
افترضنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقصد إفهامها ذلك ، وإنما صدر
منه ذلك عفواً دون قصد ، فكيف بما ذكروا أنه عقد عليه قلبه من محبته و
رغبته أن يطلقها زيد ليتزوجها ؟ ولو نسب ذلك إلى آحاد المسلمين لكان ينبغي
تبرئته من ذلك .
و
فوق ذلك كله كيف يعاتبه الله كما تقول هذه الروايات لأنه أخفى ذلك عن
الناس و لم يعلن أنه يحب زوجة زيد ، وأنه يود لو طلقها ليتزوجها ؟ تَصَوّرٌ
مثل هذا كاف في ظهور بطلان هذه الروايات .
الوجه الخامس :
هذه الروايات التي فسروا بها الآية لو لم يرد غيرها لم يصح أن يفسر بها
كتاب الله تعالى ، لسقوطها إسناداً ومتناً ، فكيف و قد وردت روايات أخرى في
تفسير الآية تفسيراً منطقياً لا إشكال فيه ولا نكارة ، فالذي يخفيه صلى
الله عليه وسلم هو ما أعلمه ربه أنه ستصبح زوجة له ، و الذي يخشاه هو مقولة
الناس إنه تزوج حليلة من كان يدعى إليه .
والغريب
في الأمر أن بعض المفسرين ترك هذه الروايات الصحيحة و التي لا مطعن فيها ،
و ذكر تلك الروايات الشاذة الغريبة ، و منهم من لم يذكرها لكنه ذهب يفسر
الآيات على ضوئها .
و
إذا اتضح الآن سقوط تلك الروايات سنداً و متناً فإنه لا يفوتني هنا أن
أسجل مواقف بعض الأئمة المحققين من المفسرين وغيرهم الذي وقفوا أمام هذه
الروايات موقفاً حازماً صلباً ، فمنهم من ذكرها و فندها ، و منهم من أضرب
عنها صفحاً بعد الإشارة إلى ضعفها و نكارتها .
قال ابن العربي بعد
أن ذكر ملخص هذه الروايات ، و بين عصمة النبي صلى الله عليه وسلم : هذه
الروايات كلها ساقطة الأسانيد . أحكام القرآن (3/1543) .
قال
القرطبي بعد أن ذكر التفسير الصحيح لما كان يخفيه صلى الله عليه وسلم ، و
ما الذي كان يخشاه من الناس : و هذا القول أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية ،
و هو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين ، كالزهري
والقاضي بكر بن العلاء القشيري والقاضي أبي بكر بن العربي و غيرهم . فأما
ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم هوى زينب امرأة زيد و ربما أطلق بعض
المُجّان لفظ عشق فهذا إنما صدر عن جاهل بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم عن
مثل هذا ، أو مستخف بحرمته . الجامع لأحكام القرآن (14/191) .
وقال
ابن كثير بعد أن ذكر الروايات الصحيحة : ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير هاهنا
آثاراً عن بعض السلف رضي الله عنهم أحببنا أن نضرب عنها صفحاً لعدم صحتها
فلا نوردها ، و قد روى الإمام أحمد هاهنا أيضاً حديثاً من رواية حماد بن
زيد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه فيه غرابة تركنا سياقه أيضاً . تفسير
القرآن العظيم (3/491) .
و
قال ابن حجر بعد أن ذكر الروايات الصحيحة : و وردت آثار أخرى أخرجها ابن
أبي حاتم والطبري و نقلها كثير من المفسرين لا ينبغي التشاغل بها . فتح
الباري (8/524) .
و
هناك ثُلّة كبيرة من علماء الإسلام في العصر الحاضر تفطنوا لمثل هذه
الأخبار ، و رمقت أبصارهم ما تنطوي عليه من مداخل خطيرة لا تليق بمقام
الأنبياء ، فأنار الله بصائرهم لكشف النقاب عن هذه الآثار الدخيلة ، فكان
لهم الفضل في التنبيه وإيقاظ الفكر الإسلامي للتصدي لكل دسيسة يراد منها
النيل من قداسة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو تشويه الحقائق التاريخية
في تراث الإسلام .
يقول
الشيخ محمد رشيد رضا : وللقصاص في هذه القصة كلام لا ينبغي أن يجعل في حيز
القبول ، و يجب صيانة النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الترهات التي نسبت
إليه زوراً و بهتاناً . محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ص 275) .
و خلاصة الأمر ..
كان
زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش لهلال ذي القعدة من العام
الخامس الهجري و هي بنت خمس و ثلاثين . ابن سعد في الطبقات (8/114) .
روى
البخاري في صحيحه ( برقم 7420) : أن زيداً جاء يشكوا زوجته ، فجعل النبي
صلى الله عليه وسلم يقول : اتق الله وأمسك عليك زوجك ، قالت عائشة : لو كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً ، لكتم هذه ، فكانت تفخر على
أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، تقول : زوجكن أهاليكن ، و زوجني الله من
فوق سبع سماوات .
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .