تقدم في العنصر الأول أن النصوص سلكت مسلك الجمع بين ذكر الأمر بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة في موضع واحد لتغليظ الأمر في ذلك.
وكذلك
سلكت النصوص مسلكا آخر حينما أمرت بالجماعة في نصوص ونهت عن الفرقة في
نصوص أخرى, وقد سبق أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده والنهي عن شيء
يستلزم الأمر بضده.
ومن النصوص التي تحث على الجماعة وترغب بلزومها
وتبين أجر من لزم ولم يفارق, وتؤكد أن العصمة في وقت الفتن والمحن هو في
التمسك بجماعة المسلمين فهي المخرج والمنجي بإذن الله منها قوله صلى الله
عليه وسلم: ((من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد))
فانظر عظم الأجر على لزوم الجماعة بل إن الخير كل الخير فيها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يد الله مع الجماعة...))
فيد
الله مع الجماعة ويد الله على الجماعة ينصرهم ويؤيدهم ويسددهم وهو معهم
معية خاصة: معية النصر والتأييد متى ما كانوا مجتمعين على الحق مجتمعين على
طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومما يبين فضل لزوم الجماعة ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((نضر
الله عبدا سمع مقالتي هذه فحملها فرب حامل الفقه فيه غير فقيه، ورب حامل
الفقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن صدر مسلم: إخلاص العمل لله عز
وجل، ومناصحة أولي الأمر ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من
روائهم))
ومعنى لا يغل: ( بضم الياء وكسر الغين) هو من الأغلال:
الخيانة في كل شيء.
ويروى يُغل بفتح الياء من الغِل وهو
الحقد والشحناء: أي لا يدخله حقد يزيله عن الحق.
وروى يُغل بالتخفيف: من الوغول: الدخول في الشر والمعنى: أن هذه الخلال الثلاث تستصلح بها القلوب فمن تمسك بها طهر قلبه من
الخيانة والدغل والشر...
ولقد
جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأمور الثلاثة متوالية فلا بد من
إخلاص العمل لله عز وجل يبتغي وجه ربه تعالى وهذا يدفعه لأن يلتزم أمر الله
عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فيناصح ولاة الأمر.
ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الدين النصيحة، قلنا لمن ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم))
فجعل قاعدة الدين وما يمثله "النصيحة" والنصيحة وتشجيعهم على الحق إن سلكوه وطاعتهم على ذلك وهذا في حق القادرين عليه. وكذلك تكون
النصيحة لهم بلزوم جماعتهم وهذا في حق كل أحد
ولا
تعني مناصحة ولاة الأمر الخروج عليهم بالسيف وقتالهم، فهذا منهي عنه لما
يؤدي إليه من الفرقة والفتنة ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم
وشرار
أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم، قيل: يا رسول الله
أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من
ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدا من طاعة))
ولذلك عقب في حديث
(ثلاث لا يغل عليهن ...))
عقب بعد المناصحة لولاة الأمر بالأمر الثالث وهو لزوم جماعتهم.
ولقد أمر الله عز وجل نبيه وأمته تبع له بلزوم الجماعة ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات...)) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((وأنا
آمركم بخمس الله أمرني بهن: السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإنه
من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع))
فبهذه
الكلمات الخمس التي أمرنا بها يلتئم شمل الجماعة ويستصلح المجتمع ويؤكد
الحبيب المصطفى عليه السلام أن النجاة والعصمة من وقوع الفتن يكون بلزوم
الجماعة أما إذا انعدمت الجماعة إمامها في وقت الفتنة فلا خير في الفرق
والسبل المتشعبة فتعتزل كلها ولا يلتزم بشيء منها لأن الجماعة غير موجودة.
فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: ((كان
الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر
مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله
بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم . قلت: وهل بعد ذلك الشر من
خير؟ قال: نعم . وفيه دخن
قلت
: وما دخنه؟ قال : قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر قلت: فهل بعد ذلك
الخير من شر؟ قال نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها قلت
: يا رسول الله صفهم لنا قال : هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قال فما
تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال تلزم جماعة المسلمين وإمامهم قلت: فإن لم يكن
لهم جماعة ولا إمام قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى
يدركك الموت وأنت على ذلك))
ولقد
بوب النووي رحمه الله لهذا الحديث وغيره " باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين
عند ظهور الفتن وفي كل حال، وتحريم الخروج من الطاعة ومفارقة الجماعة"
ويقول ابن بطال رحمه الله عن هذا الحديث : " فيه حجة لجماعة الفقهاء في وجوب لزوم جماعة المسلمين وترك الخروج على أئمة الجور
.
فتبين
لك أيها المسلم أهمية لزوم الجماعة ومدى الحاجة إليها فهي من قواعد الدين,
والخطر والشر في الفرقة لذا جاء النهي عن الفرقة والتحذير منها في أكثر من
موضع: فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((سمعت
رجلا قرأ آية وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها فجئت به النبي
صلى الله عليه وسلم فأخبرته فعرفت في وجهه الكراهية وقال: كلاكما محسن ولا
تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا))
يقول الإمام أحمد بن حجر العسقلاني رحمه الله : " وفي هذا الحديث الحض على الجماعة والألفة والتحذير من الفرقة والاختلاف"
ولقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلافهم لأن كلا القراءتين صحيحة حيث قال: ((كلاكما محسن)) فهو مصيب إذ قرأ ما أقرأه رسول الله ونهاهما عن ذلك فقال:
((ولا تختلفوا)) وعلل سبب النهي بقوله: ((فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا)) فلما كان الاختلاف يؤدي إلى الفرقة المؤدية إلى الهلكة كرهه عليه الصلاة والسلام ونهى عنه.
بل ونهى عن كل سبب يؤدي إليه: ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه))
.
وقوله : (( ما ائتلفت عليه قلوبكم ))
أي : اجتمعت، فاقرؤوه وأنتم مجتمعون عليه متآلفة قلوبكم متحدة, أما إن وقع
الاختلاف وهو قوله: فإذا اختلفتم أي: في فهم معانيه عندما تخشى عليكم
الفرقة ووقوع النزاع بينكم فالواجب القيام عنه لذلك قال" فقوموا عنه" أي
تفرقوا لئلا يتمادى بكم الاختلاف إلى الشر
.
ولقد
كان صلى الله عليه وسلم يغضب ويشتد غضبه عند اختلاف أصحابه في أمر من أمور
الدين خشية ما يؤدي إليه من فرقة وهلكة ففي الحديث عن عبدالله بن عمرو
قال: ((هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما
فسمع أصوات رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا في آيَةٍ فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُعْرَفُ في وَجْهِهِ الْغَضَبُ فقال: إنما
أهلك من كان قبلكم من الأمم باختلافهم في الكتاب))
.
ولقد
كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم من أشد الناس تحذيرا من الفرقة ونهيا
عنها وبيانا لأضرارها يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ناصحا ومرشدا
لرعيته: إياكم والفرقة بعدي
.
ويقول
معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما في إحدى خطبه محذرا من الفتنة التي
تؤدي للفرقة يقول: إياكم والفتنة فلا تهموا بها فإنها تفسد المعيشة وتكدر
النعمة وتورث الاستيصال
.
ولقد
نصح النعمان بن بشير رضي الله عنه أهل المدينة حينما خلعوا بيعة يزيد بن
معاوية في نهاية عام 62هـ وحذرهم من عواقب الفرقة ومضارها وما ينتج عنها من
سفك للدماء ودمار للديار فقال لهم رضي الله عنه: إن الفتنة وخيمة, وقال:
لا طاقة لكم بأهل الشام, فقال له عبد الله بن مطيع: ما يحملك يا نعمان على
تفريق جماعتنا وفساد ما أصلح الله من أمرنا؟ فقال له النعمان أما والله
لكأني وقد تركت تلك الأمور التي تدعو إليها وقامت الرجال على الركب التي
تضرب مفارق القوم وجباههم بالسيوف ودارت رحى الموت بين الفريقين وكأني بك
قد ضربت جنب بغلتك إلي وخلفت هؤلاء المساكين ـ يعني الأنصارـ يقتلون في
سككهم ومساجدهم وعلى أبواب دورهم فعصاه الناس فلم يسمعوا منه فانصرف وكان
الأمر والله كما قال سواء