اختلف العلماء في المراد بها على أقوال، وهي إجمالاً:
1- قيل: إنها السواد الأعظم من أهل الإسلام.
2- وقيل: هم العلماء المجتهدون الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أمتي لا تجتمع على ضلالة))
، أي لن يجتمع علماء أمتي على ضلالة، وخصهم شيخ الإسلام بعلماء الحديث والسنة.
3- إنهم خصوص من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم في رواية: ((ما أنا عليه اليوم وأصحابي))
.
4-
إنهم جماعة غير معروف عددهم ولا تحديد بلدانهم، أخبر عنهم النبي صلى الله
عليه وسلم بإخبار الله له أنهم على الحق حتى يأتي أمر الله. ولعل هذا هو
الراجح من تلك الأقوال ونحن نطمع إن شاء الله أن نكون منهم مادمنا على
التمسك بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى منهج سلفنا
الكرام.
5- وفيه قول خامس، أن الجماعة هم جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير
.
إن
المنهج الذي يتبعه شيخ الإسلام ابن تيمية في تحديد النطاق العملي للفرقة
في الإسلام ، يعتمد بالدرجة الأساسية على نظرته الواسعة للأدلة الشرعية ،
وفهمه الواسع للكتاب والسنة ، وهو عندما يبحث في تحديد مفهوم الفرقة لا
يبتعد عن هذين الإطارين ، فهو ينظر إلى حديث الافتراق باعتباره حديثاً
مشهوراً كثر كلام العلماء حوله ، ومع ذلك فإن تحديد الفرقة عند ابن تيمية
يتعدى تعداد هذه الفرق إلى بيان الفرقة الناجية ، إذ يقول في تعليقه على
حديث الافتراق : ((ولهذا وصف الفرقة الناجية بأنها
أهل السنة وهم الجمهور الأكبر والسواد الأعظم ، وأما الفرق الباقية فإنهم
أهل الشذوذ والتفرق والبدع والأهواء ، ولا تبلغ من هؤلاء قريباً من مبلغ
الفرقة الناجية ، فضلاً عن أن تكون بقدرها))
.
وينبه شيخ الإسلام على ضرورة التحري في إطلاق تسمية ( الفرقة الناجية ) جزافاً وبدون دليل، فيقول : ((وأما
تعيين هذه الفرق فقد صنف الناس فيهم مصنفات وذكروهم في كتب المقالات ، لكن
الجزم بأن هذه الفرقة الموصوفة هي إحدى الثنتين والسبعين لا بد له من دليل
، فإن الله حرم القول بلا علم عموماً ، وحرم القول عليه بلا علم خصوصاً))
،
وهذا البيان الذي يقدمه شيخ الإسلام يبين نظرة أهل السنة والجماعة إلى
الفرق الأخرى ، إذ أن الغالب في تعاملهم معها التحري والتدقيق ، في حين أن
الفرق الأخرى تطلق هذه المصطلحات جزافاً ودون ورع .
ولذلك فكل فرقة من هذه الفرق تدعي أنها هي الفرقة الناجية وأن ما عداها في ضلال وغواية ، قال ابن تيمية : ((فكثير
من الناس يخبر عن هذه الفرق بحكم الظن والهوى ، فيجعل طائفته والمنتسبة
إلى متبوعه الموالية له هم أهل السنة والجماعة ، ويجعل من خالفها أهل البدع
، وهذا ضلال مبين فإن أهل الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله صلى
الله عليه وسلم))
.
ويعتني
شيخ الإسلام عناية كبيرة في تحديد الفرقة الناجية والأدلة الدالة على ذلك ،
ومن خلال تناوله لحديث الافتراق ، يحرص ابن تيمية على تحديد الفرقة
الناجية بالمفهوم الصحيح لها ، وذلك بالاستشهاد بالكلام النبوي فيقول: إنه
صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن الفرقة الناجية قال : ((من كان مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ، وفي رواية أخرى قال : هم الجماعة))
،
وهذا التحديد للفرقة الناجية هو الراجح من خلال النظر إلى الأدلة الشرعية ،
ويعد شيخ الإسلام أهل السنة هم الفرقة الناجية ، وإن كان ذلك لا يعني أن
جميع الفرق الأخرى هالكة ، فيقول : وهذه الفرقة الناجية ( أهل السنة ) وهم
وسط في النحل ، كما أن ملة الإسلام وسط في الملل
، وبعد هذا التقرير يستند إلى الحديث نفسه .
ويمكن
الإشارة هنا إلى تفريق شيخ الإسلام بين مصطلحين مشهورين هما مصطلح (
النحلة ) و( الملة ) ، فالنحلة لغة: انتحال شيء ونسبته لشخص معين ، يقال:
انتحل فلان شعر أو قول فلان إذا ادعى أنه قائل ، واصطلاحاً تعني انتحال
الشيء واعتقاده والدعوة إليه ، وغالباً ما يكون في الاعتقاد
، وكذلك استعمال ابن تيمية لمصطلح ( الملة ) والتي تعني الشريعة أو الدين ، قال ابن منظور: هي معظم الدين ، وجملة ما يجيء به الرسل
,
وهذا التفريق هو المشهور عند العلماء، وقد استعمل شيخ الإسلام ابن تيمية
هذا المصطلح للدلالة على تعبير الفرقة ، كما هو متبع عند علماء الملل
والنحل .
ويقرر شيخ الإسلام أخيراً الفرقة الناجية بنظره فيقول: إن أحق
الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة ، الذين ليس لهم متبوع
يتعصبون له إلا رسول الله ، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله وأعظمهم
تمييزا بين صحيحها وسقيمها ، وأئمتهم فقهاء فيها وأهل معرفة بمعانيها
واتباعا لها تصديقا وعملا وحبا وموالاة لمن والاها ومعاداة لمن عاداها ،
الذين يردون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة ، فلا
ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم وجمل كلامهم إن لم تكن ثابتة فيما
جاء به الرسول ، بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل
الذي يعتقدونه ويعتمدونه
.
نطاق الفرقة:
من
المسائل المهمة التي نالت اهتمام العلماء تحديد الإطار العلمي للفرقة ،
دون النظر إلى التفرعات الحاصلة في الفروع ، لأن مفهوم الفرقة قد يتشعب عند
بعض العلماء بحيث لا يمكن أن يعمم بأي حال من الأحوال ، وينبه شيخ الإسلام
إلى ذلك بقوله : الجماعة هي الاجتماع ، وضدها الفرقة وإن كان لفظ الجماعة
قد صار اسماً لنفس القوم مجتمعين
،
وهذا التمييز قد نبه إليه قبل قليل عند تناوله لحديث الافتراق ، كما أنه
نبه على ضرورة عدم تعميم الأحكام فيما يخص مقالات هذه الفرق وشبهاتها ،
فقال: ومما ينبغي أيضا أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول
الدين والكلام على درجات ، منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة ،
ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة
،
وهذا التقرير حسن منه رحمه الله تعالى ، إذ أن هذه الفرق تتفاوت في
مقالاتها واعتقاداتها ، فلا يمكن إصدار حكم يشملها كلها ، ومع ذلك فالأصل
الذي ينبغي أن يبنى عليه – في تحديد هذه الفرق - هو اتباع الكتاب والسنة .
وعند
تعيينه للفرق الإسلامية فإن شيخ الإسلام يتبع منهج السلف في ذلك ولا يحيد
عنه ، فيقول: وأما تعيين الفرق الهالكة ، فأقدم من بلغنا أنه تكلم في
تضليلهم يوسف بن أسباط ، ثم عبد الله بن المبارك، وهما إمامان جليلان من
أجلاء أئمة المسلمين ، قالا : أصول البدع أربعة : الروافض والخوارج
والقدرية والمرجئة ، فقيل لابن المبارك : والجهمية ؟ فأجاب بأن أولئك ليسوا
من أمة محمد
،
وهذا التقسيم للفرق هو المشهور بين العلماء ، إذ يقسمون الفرق إلى أربعة
أصناف ، أو خمسة على اختلاف فيما بينهم في عد الجهمية من الفرق الإسلامية .
ومن
خلال تناول شيخ الإسلام ابن تيمية للعدد المحدد في الفرق نراه يعتمد حديث
الافتراق في تقسيم أصول الفرق المتقدمة، فيقسمها بالتساوي وفق الأصول
المذكورة: وجعلوا أصول البدع خمسة ، فعلى قول هؤلاء يكون كل طائفة من
المبتدعة الخمسة اثنا عشر فرقة ، وعلى قول الأولين يكون كل طائفة من
المبتدعة الأربعة ثمانية عشر فرقة
،
ولكننا بواقع الحال لا يمكن أن نسلم بهذه القاعدة ، إذ أن هذه الفرق
تتفاوت في التقسيم ، فأكثر الفرق تقسيماً هم الشيعة وأقلهم هم المرجئة
والجهمية ، على تفصيل مذكور في كتب الملل والنحل ، ولكن يمكن القول أن هذا
هو التقسيم يأخذ هذه الفرق بإطارها العام.