لقد وردت نصوص عدة تأمر بالجماعة وتثني بالنهي عن الفرقة في موضع واحد مع
أن الأمر بالجماعة يستلزم النهي عن الفرقة, والنهي عن الفرقة يستلزم الأمر
بالجماعة ولو لم يذكر ذلك فكل من أمر بشيء فقد نهى عن فعل ضده, ومن نهى عن
فعل فقد أمر بفعل ضده
مما يؤكد وجوب الأمر بالجماعة وترك الفرقة والنهي عنها, ومن هذه النصوص قول الله تعالى:وَاعْتَصِمُواْ
بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ
اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ
مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ
آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [ آل عمران: 103] ففي هذه الآية أمرنا الله عز وجل بالجماعة ونهانا عن التفرقة
يقول الإمام محمد بن جرير الطبري في تأويل قوله تعالى:وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ
وتعلقوا بأسباب الله جميعا يريد بذلك تعالى ذكره: وتمسكوا بدين الله الذي
أمركم به وعهده الذي عهده إليكم في كتابه من الألفة والاجتماع على كلمة
الحق والتسليم لأمر الله.
ويقول الإمام القرطبي رحمه الله في معنى الآية : فإن الله يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة فإن الفرقة هلكة والجماعة نجاة
.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما لسماك الحنفي: يا حنفي الجماعة الجماعة! !
فإنما هلكت الأمم الخالية لتفرقها, أما سمعت الله عز وجل يقول:وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103]
.
وهذا
الأمر بالجماعة عام للأمة في كل زمان وكل مكان هذا حالهم أن يكونوا
مجتمعين بحبل الله, فالله سبحانه وتعالى أمرهم بأن يعتصموا بحبل الله
جميعا، وجميعا: منصوب على الحال أي: كونوا مجتمعين على الاعتصام بحبل الله
.
وفي
هذه الآية وبعد أن أمرهم سبحانه بالجماعة والتمسك بها إذ به منعتهم
وأمنهم، نهاهم عن الفرقة فقال ولا تفرقوا أي : لا تتفرقوا عن دين الله
وعهده الذي عهد إليكم في كتابه من الائتلاف والاجتماع على طاعته وطاعة
رسوله صلى الله عليه وسلم والانتهاء إلى أمره
.
يقول
عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة
فإنهما حبل الله الذي أمر به, وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة هو خير مما
تستحبون في الفرقة
.
ومعنى
نهيه تعالى عن الفرقة في قوله: ولا تفرقوا: أي لا تفرقوا في دينكم كما
افترقت اليهود والنصارى في أديانهم ولا تفرقوا متابعين للهوى والأغراض
المختلفة
.
ويجب
أن يعلم المؤمن أن الاجتماع على الحق والبعد عن الفرقة مما أمرنا الله به
ورضيه لنا ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن
الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به
شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ويكره لكم ثلاثا : قيل وقال ،
وكثرة السؤال وإضاعة المال))
.
فالله سبحانه حثنا على الاجتماع وأمرنا بلزوم جماعة المسلمين وتألف بعضهم ببعض وهذه إحدى قواعد الإسلام
.
ولكن
لا يكون الاجتماع لمجرد الاجتماع, فالأمر بالاجتماع ليس اجتماع على أي شيء
أو اجتماع على لا شيء, بل اجتماع على الدين اجتماع على كلمة الحق والتسليم
لأمر الله الاجتماع على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والعمل
بنصوص الشريعة كلها.
وفي هذا رد على كل مدعٍ مطالب باجتماع الأمة لمجرد
الاجتماع والسكوت عن باطل المخالف من أهل الأهواء وترك الإنكار عليه في
بدعته حتى لا يتعكر صفو هذا الاجتماع أو التقارب المزعوم ورحم الله الإمام
القرطبي إذ يبين الأساس الذي ينبغي أن يكون عليه الاجتماع وبه تتحقق وحدة
الصف فيقول: فأوجب الله تعالى علينا التمسك بكتابه وسنة نبيه والرجوع
إليهما عند الاختلاف وأمرنا بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسنة اعتقادا
وعملا وذلك سبب اتفاق الكلمة وانتظام الشتات الذي يتم به مصالح الدنيا
والدين والسلامة من الاختلاف
.
ويسبق
الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله القرطبي في هذا المعنى ويبين أن
اجتماع الأبدان ليس بمعتبر ولا مقصود بل المقصود والمعتبر الاجتماع على
طاعة الله ورسوله الاجتماع على الحق فيقول بعد أن بين أن الأمر بلزوم جماعة
المسلمين ليس له إلا معنى واحد ذلك أنه : إذا كانت جماعتهم متفرقة في
البلدان فلا يقدر أحد أن يلزم جماعة أبدان قوم متفرقين وقد وجدت الأبدان
تكون مجتمعة من المسلمين والكافرين ولأن اجتماع الأبدان لا يصنع شيئا فلم
يكن للزوم جماعتهم معنى إلا ما عليهم جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة
فيهما ومن قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم ومن خالف ما
تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أمر بلزومها
.
ومما ورد في الأمر بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة في موضع واحد قوله تعالىوَأَنَّ
هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ [ الأنعام:153]
يقول عبدالله بن عباس رضي الله عنهما في قوله: فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام:153] وقوله:أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [ الشورى: 13]
ونحو هذا في القرآن قال : أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف
والفرقة وأخبرهم إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله
.
يقول
الإمام الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية : وهذا الذي وصاكم به ربكم
أيها الناس... وأمركم بالوفاء به هو صراطه يعني طريقه ودينه الذي ارتضاه
لعباده مستقيما قويما لا اعوجاج به عن الحق فاعملوا به واجعلوه لأنفسكم
منهاجا تسلكونه ولا تسلكوا طريقا سواه ولا تركبوا منهجا غيره ولا تتبعوا
دينا خلافه من اليهودية والنصرانية والمجوسية وغير ذلك من الملل فإنها بدع
وضلالات
نعم
إن الجماعة والائتلاف لا تتحقق إلا بوحدة المعتقد ووحدة المنهج والسلوك
عندها يتحقق للأمة الاجتماع على الحق والسير على الصراط المستقيم الذي
وصاهم ربهم به
والفرقة تقع في الأمة حينما تتعدد المناهج وتتعدد الطرق
لذلك بين الله عز وجل لهم أن طريق الحق واحد وأن السبيل إلى الاجتماع واحد
وهو السير على الصراط المستقيم أما إن أبو ذلك فإن السبل ستتخطفهم ويتشعبوا
في الضلالات والبدع وواقع الأمة الآن شاهد على ذلك.
يقول الإمام إسماعيل بن كثير رحمه الله : قوله تعالى:فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ [الأنعام:153] قال: إنما وحد سبيله لأن الحق واحد ولهذا جمع السبل لتفرقها وتشعبها
وهذه السبل بين معناها عبدالله بن عباس ترجمان القرآن رضي الله عنه فقال : لا تتبعوا الضلالات
وفي الحديث عن عبدالله بن مسعود قال : ((خط
لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطاً، ثم قال: هذا سبيل الله، ثم
خط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن يساره ثم قال : هذه سبل على كل سبيل منها
شيطان يدعو إليها"ثم قرأ هذه الآية))
ويفسر
عبدالله بن مسعود رضي الله عنه هذا الحديث وذلك أن رجلا قال لابن مسعود:
ما الصراط المستقيم؟ قال تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه وطرفه في
الجنة وعن يمينه جواد وعن يساره جواد وثمّ رجال يدعون من مر بهم فمن أخذ في
تلك الجواد انتهت به إلى النار ومن أخذ على الصراط المستقيم انتهى به إلى
الجنة ثم قرأ ابن مسعود : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي
مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ
بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [ الأنعام:153]
.
وفي حديث النواس بن سمعان الأنصاري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ضرب
الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران بينهما أبواب مفتحة وعلى
الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا
الصراط جميعا ولا تتفرقوا، وداع يدعو فوق الصراط، فإذا أراد إنسان فتح شيء
من تلك الأبواب قال له : ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه, فالصراط:
الإسلام, والستور: حدود الله ، والأبواب: محارم الله ، والداعي على رأس
الصراط: كتاب الله تعالى والداعي من فوق الصراط: واعظ الله في قلب كل
مسلم))
فانظر
رعاك الله أيها المسلم كيف أمرنا الله عز وجل بسلوك هذا الصراط المستقيم
والدخول فيه والاجتماع عليه إذ لا يحيد عنه إلا مفارق لهؤلاء المجتمعين
عليه من المسلمين فقال: يا أيها الناس ادخلوا الصراط المستقيم جميعا ولا
تفرقوا.
نعم جميعا ولا شيء يجمع المسلمين بحق غير الإسلام الانقياد
للإسلام والعمل بشرائعه كلها وتطبيق أحكامه على مناحي الحياة وعلى الأفراد
سواسية...
فدين الإسلام لا يقبل التجزئة وما حلت النكبات بالأمة
وابتلوا وعذبوا بالفرقة إلا لما شابهوا أهل الكتاب في الإيمان ببعض الكتاب
وترك البعض.