قال الذهبيُّ في تذكرة الحفَّاظ: "فحقٌّ
على المحدِّثِ أن يَتورَّعَ في ما يُؤديهِ، وأن يَسألَ أهلَ المعرفةِ
والورعِ؛ ليعينوه على إيضاحِ مَرويَّاتهِ، ولا سَبيلَ إلى أن يصيرَ
العَارِفُ الذي يُزَكِّي نَقَلةَ الأخبارِ ويَجرحهم جهبذًا إلاَّ بإدمانِ
الطَّلبِ، والفَحْص عن هذا الشأنِ، وكَثرةِ المذاكرةِ والسَّهر، والتيقُّظ
والفَهم، مع التقوى والدِّين المتين، والإنصاف والتردُّد إلى مجالسِ
العلماء، والتحرِّي والإتْقان، وإلاَّ تفعل:
فَدَعْ عَنْكَ الكِتَابَةَ لَسْتَ مِنْهَا وَلَوْ سَوَّدْتَ وَجْهَكَ بِالْمِدَادِ |
قال الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿
فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾
[بالنحل: 43]، فإنْ آنستَ يا هذا مِن نفسك فهمًا وصدقًا ودِينًا وورعًا،
وإلاَّ فلا تَتَعَنَّ، وإن غلَب عليكَ الهَوى والعصبيَّة لرأيٍ أو لمذهَب،
فباللهِ لا تتعَب، وإنْ عرفتَ أنَّك مُخَلِّطٌ مُخَبّطٌ مهملٌ لحدودِ الله،
فأرِحْنا منك، فبعدَ قليلٍ ينكشف البَهْرَجُ، وَيَنْكَبُ الزَغَلُ، ولا
يَحيق المكرُ السيِّئُ إلا بأهلِه، فقد نصحتُك، فعِلم الحديثِ صَلفٌ؛ فأين
عِلمُ الحديث، وأينَ أهلُه؟ كدتُ ألاَّ أراهم إلاَّ في كِتاب أو تحتَ
تُراب".السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.بسمِ
الله، والحمدُ لله، والصَّلاةُ والسلامُ على رسولِ الله - صلَّى الله عليه
وسلَّم - وبعدُ، فبَيْن يديك الآن الشرحُ الذي لا يُوجَد في المحاضراتِ
المطبوعة التي وزَّعها شيخنا د. عيد نعيمي - حفظه الله - ونصَح بكتابتها
وتدوينها خَلْفَه، وذلك مقدِّمة في عِلم مصطلح الحديث.
تعريف علم مصطلح الحديث:قال السيوطيُّ في ألفيته:
عِلْمُ الحَدِيثِ ذُو قَوَانِينَ تُحَدّ يُدْرَى بِهَا أَحْوَالُ مَتْنٍ وَسَنَدْ
فَذَانِكَ المَوْضُوعُ والمَقْصُودُ أَنْ يُعْرَفَ المَقْبُولُ وَالمَرْدُودُ |
علم مصطلح الحديث هو: العِلمُ بالقواعدِ والقوانين التي يُعرَف بها أحوالُ السَّند والمتن مِن حيث القَبولُ والردُّ.
و معلومٌ أنَّه في بدايةِ الدِّراسة في أيِّ علم تكون هناك كلماتٌ في حاجةٍ إلى بيانٍ وتفسير، وأولُ هذه الكلمات هي
(السَّند).
تعريف السند:هو عبارةٌ عن سِلسلةِ الرِّجال الموصلة إلى المتْن.
وكما تعلمون، فإنَّ حديث النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يأتي على صورةِ:
((حدَّثَنا فلان عن فلان أنَّ فلانًا قال: أخبرَنا فلان، قال: أنبأَنا فلان، قال: سمعتُ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال كذا وكذا)).
مثال: "حدَّثَنا مالكٌ عن نافع، عن ابنِ عُمرَ أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال كذا وكذا، فكما ترَى مالك ونافع وابن عمر - رضي الله عنهما - فهؤلاء هُم سلسلةُ الرِّجالِ الموصلة إلى المتن".
تنبيه: درَج كثيرٌ مِن طلبةِ العِلم على تعريفِ السَّند بهذا التعريف السابِق
(سلسلة الرجال الموصلة إلى المتن)، إلاَّ أنَّ هذا التعريف عليه بعضُ الانتقادات
[1].
انتقادات تعريف السند بأنَّه سلسلةُ الرِّجال الموصلة للمتن:الانتقاد الأول:تعريف
السَّند بأنَّه سلسلة الرِّجال، ترَك صِيَغ التحمُّل المباشرة وغير
المباشرة، فعندما نقول: حدَّثَنا مالك عن نافع عن ابنِ عُمر، فهذا التعريفُ
ذَكَر الرِّجال فقط
(ذكر مالكًا ونافعًا وابنَ عمرَ - رضي الله عنهما) وترَك
(حدَّثَنا، أنبأَنا، أخبرَنا، سمعْت، قال، عن، أنّ)، ففي علم الحديث تُسمَّى هذه الكلمات
(حدَّثَنا، أنبأَنا، أخبرَنا، سمعت، قال، عن، أنّ) تُسمَّى صِيغَ التحمُّل، وهي تنقسم إلى قِسمين:
صيغ التحمُّل المباشِرة | صيغ التحمُّل غير المباشِرة |
مثل: (سمعت، حدَّثَنا، أنبأَنا، أخبَرَنا) وهي تعتمد على المواجهةِ مع الشيخ وجهًا لوجه، ولا تحتمل إلا السماعَ أو الخطأ، أو التأويل أو الكَذِب.
| مثل: (عن، قال، أن) وتُقبَل هذه الصِّيَغ من الثِّقات[2] غير المدلِّسين؛ أي: إنَّها محمولةٌ على السَّماع، أما الثقات المدلِّسون فلا تُحْمَل على السَّماع، إنَّما تُحْمَل على الانقطاع - على تفصيل سوف يأتي في مراتب المدلِّسين؛ أي: إنَّ الثقةَ المدلِّس أوهم (استخدم التعريض) أنَّه سمِع الحديثَ مِن الشيخ مباشرةً، وهو إنَّما سمِعه بواسطة، ثم قام بإسقاط هذه الواسِطة ورواه عن الشيخ مباشرةً، ولكن بصِيغة تحتمِل السماعَ مثل (عن، قال، أنّ) كما أنَّ صيغ التحمُّل غير المباشرة تحتمل الكذب (مِن غير الثقات)، وتحتمل الخطأَ مِن الجميع.
|
التَعْرِيض:فمثلاً تُريد
أن تحصُل على سندٍ عالٍ مِن شيخك في حديثٍ لم تسمعْه منه، ولكنَّك سمعتَه
من قرينٍ لك في طلبِ العِلم، فتقوم بإسقاطِ قرينِك وتَروي الحديثَ عن شيخك
مباشرةً؛ طلبًا لعلوِّ السَّند، ولكنَّك ترويه بصيغةٍ تحتمل السماعَ
(صيغ التحمُّل غير المباشِرة)،
وهذا يُعدُّ تدليسًا؛ لأنَّك أوهمتَ الطالب أنَّك سمعتَ الحديثَ مِن شيخك،
وإنَّما سمعتَه بواسطة، ثم قُمتَ بإسقاطِ هذه الواسِطة؛ طلبًا لعلوِّ
السند أو غيره مِن الأغراض الحامِلة على التدليسِ، والتي سوف تدرس في مبحث
التدليس - إنْ شاء الله.
في
الماضي - في زمن الرِّواية - كان علوُّ السَّند شرفًا، فكلَّما اقترب
الراوي مِن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بسندٍ نظيفٍ، حاز شرفًا،
يقول: وصلتُ إلى النبيِّ براويين، وآخَر وصَل بثلاثة، وآخَر بخمسة، فهذا
الذي وصَل بخمسةِ رُواة فيه نوعٌ من النزول؛ لأنَّك اضطررتَ أن تأخذَ عن
أقرانك وتلاميذك، ولا يُعدُّ هذا عيبًا[3] ولكنَّه دنوٌّ في الهمة؛ قيل لابنِ مَعينٍ في بيتِه حين وفاته: ما تطلُب؟ قال
"بيتٌ خالٍ، وسندٌ عالٍ" يُريد بيتًا خاليًا؛ ليطلبَ عِلمَ الحديث، وسندًا عاليًا؛ ليقتربَ من
النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهذه كانت آخرَ أمنياته قبل موته.
الاعتراض على الانتقاد:يردُّ على هذا الانتقاد الأوَّل؛
(لينتصرَ لتعريف السَّند بأنه سلسلةُ الرجال الموصلة للمتن)،
فيقول: كلمة سلسلة تشمل صِيَغ التحمُّل المباشِرة وغير المباشرة؛ لأنَّ
السلسلة مِن صِفتها أنَّها متشابكة، فلا يصلُح أن يأخذ رجلٌ عن رجلٍ إلاَّ
إذا كانت هناك وسيلةُ اتصال بينهما، إذًا كلمة سلسلة تضمَّنت صِيَغ
التحمُّل تضمنًا غيرَ مباشرٍ.
الرد على الاعتراض:فيُرَدُّ
على هذا الاعتراضِ بأنَّ كلمة سلسلة تَعني أنَّ الأسانيدَ متصلة أيضًا،
وكثير مِن الأسانيد غير متصلة، والدَّليل على ذلك أنَّ هناك أحاديثَ ضعيفةً
كثيرةً، وسببُ ضعْفِها السَّقْط في السَّند، إذًا الاعتراض على الانتقادِ
مَردود، إذا ثبَت لنا الانتقاد.
الانتقاد الثاني:إنَّ تعريفَ السند بأنَّه سلسلةُ الرجال أهملَ الوسائط غيرَ الرجال مِثل الوجادة
[4]، حيث إنَّ التعريف ذكَر الرجال فقط، وفي عِلم الحديث يُمكن أن آخُذ الحديث
"وجادة"؛
نعني: بذلك أنَّ شَيْخي قدْ ماتَ - رحمه الله - ثم ذهبتُ إلى مكتبته
فوجدتُ كتابًا له، ولكنِّي لم أسمعْه منه، فأنقل عن كتاب شيخي - هذا
يُسمَّى وجادة - وعندما أَتكلَّم بما وجدتُه لا أقول: حدَّثني شيخي، وإلاَّ
أكون كاذبًا، وإن قلت: عن شيخي أكون مدلِّسًا؛
لماذا؟ لأنِّي أسقطتُ الواسطة بيني وبيْن شيخي، ألاَ وهو الكتاب الذي وجدته؛
(لذلك يُسمَّى هذا النَّوْع مِن طُرُق التحمُّل وجادة)، والصواب أن أقولَ: عن كتاب شَيْخي، فهذه هي الدقَّة، فعِلْم الحديث الذي بهذه الدقَّة المتناهية - مِن خصائص هذه الأمَّة.
كما
أنَّه لا يجوز أن نَنقُل عنِ الشرائط الصوتيَّة والفيديوهات المرئيَّة
وأقول: سمعتُ عن فلان أو حدَّثني فلان، بل أقول: قال فلان في شريط الفيديو،
فأكون ذكرتُ الواسطةَ التي بيْني وبيْنه؛ لاحتمالِ أن يكونَ حدَث نوعٌ من
التغيير والتبديل في هذه الوسائط.
كما أنَّه في عِلم الحديث لا يُؤخَذ
عِلمُ عللِ الحديث مِن الصَّغير في السنِّ، بل تأخذه مِن الكبيرِ ليس في السنِّ فقط، بل
الكبير في طلَب العِلم، كأن يكونَ دَرَس عِلم الحديث لخمسٍ وستِّين سَنة
مثلاً
(مثل الشيخ الألباني - رحمه الله)،
بحيثُ يصِلُ لدرجة أنَّه مجرَّد أن يسمعَ الحديثِ يَعرِف أنَّه صحيح أم
غير صحيح؛ لكثرة ممارسته للألفاظِ النبويَّة، حتى اختلط بها شحمُه ولحمُه،
فمثلاً لو أعطيت نقودًا مزوَّرة لصيرفي، فسيَعرِفها بمجرَّد النَّظَر،
وأمَّا إنْ أعطيتها لغير متخصِّص، فلن يعرفَ، كذلك المحدِّث الذي طال عمرُه
في التحديثِ، والْتَحم شحمُه ولَحمُه بالتحديث، ويُسمَّى هذا
(عِلم العِلل) عندَ الجاهل كهانةً، ولكنَّه عندَ العلماء عِلمٌ له قواعدُ وقوانين تحكمه،
لكنَّها لا تُدرَك إلا بكثرةِ الممارسة، ولقدْ كان علماءُ العِلل يعلُّون
بعضَ الأحاديث بقولِهم: هذا الحديث أشبهُ بحديث فلانٍ، وليس معهم في ذلك
سوى كثرةِ الاطِّلاع والممارسة، حتى أصبحتْ لهم ملَكَة في ذلك[5]،
فيأتي مَن لا يُحسن ويُخطِّئ هؤلاء الفحولَ؛ لمجرَّد أنَّه دَرَس خمسة أو
ستة أعوام في عِلم مصطلح الحديث، فيقول: لقد أخطأ فلانٌ في هذا التعليل؛ إذ
إنَّ ليس معه دليل، ولا يَدري هذا الجاهلُ المتطاول على مائدةِ العلماء
أنَّ تعليل علماء العِلل للحديث هو الدليل
[6]،
فقولهم هو القولُ، وما سواه مردود، فهم أهلُ الصنعة، بل هم أهلُ الذِّكْر
في هذا الباب، فهذا الطُّويلب يحتاج إلى أن يَتعلَّم الأدبَ قبل أن
يتعلَّمَ العِلم، وكما قال العلماء:
لو سَكَتَ مَن لا يَعلم، لقلَّ الخلاف، وإليك ما يُدلِّل على ذلك:[7]
قال الحُسينُ بنُ الحسَنِ المروزيُّ[8]: سمعتُ عبدَالرحمن بن مهديٍّ يقول: كنتُ عندَ أبي عَوَانةَ، فحدَّث بحديثٍ عن الأعْمَش، فقلتُ: ليس هذا مِن حديثِك.قال:
بلَى! قلتُ: بلى! قال: يا سلامة! هاتِ الدُّرج فأخرجتُ، فنظَر فيه، فإذا
الحديث ليسَ فيه، فقال: صدقْتَ يا أبا سعيد؛ فمِن أين أُتيت؟! قلتُ:
ذُوكرتَ به وأنت شابٌّ، ظننتَ أنَّك سمعتَه! وقال يحيى بن معين[9]:
حضرتُ نُعيمَ بن حماد بمصر، فجعَل يقرأ كتابًا صنَّفه، فقال: حدَّثَنا
ابنُ المبارك، عن ابنِ عون؛ وذكَر أحاديث. فقلتُ: ليس ذا عنِ ابن المبارَك.
فغَضِب؛ وقال: تردُّ عليَّ؟! قلتُ: إي واللهِ! أريد زَيْنَك، فأبَى أن
يرجع، فلمَّا رأيتُه لا يرجع، قلت: لا، واللهِ؛ ما
سمعتَ هذه مِن ابنِ المبارك، ولا سَمِعها هو مِن ابنِ عون قطُّ! فغضِب،
وغضِب مَن كان عندَه، وقام فدخَل؛ فأخرج صحائفَ، فجعل يقول - وهي بيدِه -
أين الذين يَزْعُمون أنَّ يَحيى بن مَعينٍ ليس بأميرِ المؤمنين في الحديث؟!
نعمْ! يا أبا زكريا؛ غَلِطتُ، وإنَّما روَى هذه الأحاديثَ غيرُ ابن
المبارك، عنِ ابن عونٍ!وهذا حديثٌ مِن تلك التي أنكرها ابنُ معينٍ على نُعيمِ بن حمَّاد، بهذا الإسناد: قال هاشمُ بن مَرْثدٍ الطبرانيُّ[10]:
قيل ليحيى بن مَعينٍ - وأنا أسمع -: حديث رواه نُعيمُ بنُ حمَّاد عنِ ابن
المبارَك، عنِ ابن عون، عن محمَّد بن سِيرين، عن ابنِ عُمر، قال: قال رسولُ
الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "إذا اغْتَلَمَتْ[11]آنيتُكُم، فاكْسِروها بالماء"؟ فقال يَحيى بنُ مَعين: قال لي نعيم: سمعتُه مِن ابن المبارَك؛ فقلت كَذِبٌ - أي: خطأ - فقال لي: اتَّق الله! فقلتُ: كذِب، والله الذي لا إله إلا هو، فذَهَب، ثم لَقِيني بعدُ، فقال: ما وجدتُ له عندي أصلاً؛ فرجَع عنه!وكان رُواة الحديث يَعرِفون شأن نقَّادِه،
ويَقدرونهم قدرَهم، ويُنزلونهم منزلتَهم، فكانوا يَرجِعون إليهم ويسألونهم
عنْ أحوالِ أنفسِهم وأحاديثهم، وإذا بيَّنوا لهم الخطأ رَجَعوا عنه، ولم
يُحدِّثوا به بعدُ، فكلُّ راوٍ مِن الرواة كان يَعلم أنَّ نقَّاد الحديث
وجهابذته أعلمُ بحديثِه: صحيحه وسَقيمِه، ومحفوظِه ومُنكَرِه، وأعلم بحاله:
ثقتِه وَضْعفهِ - من نفسِه التي بين جنبيه.
قال ابنُ معين[12]: قال لي إسماعيلُ بنُ عُليَّةَ يومًا: كيف حَديثي؟!
قلتُ: أنت مستقيم الحديث، فقال لي: وكيف عَلمْتُم ذاك؟! قلتُ له: عارضْنا
بها أحاديثَ الناس، فرأيناها مستقيمةً، فقال: الحمدُ لله، فلم يزلْ يقول:
الحمد لله، ويحمَد ربَّه، حتى دخَل دار بشر بن معروفٍ - أو قال: دار
البختري - وأنا معه. وقال ابنُ أبي حاتمٍ[13]: رأيتُ كتابًا كتَبه عبدُالرحمن بن عمر الأصبهانيُّ المعروف بـ "رُوسْتَه"؛
مِن أصبهان، إلى أبي زُرْعَةَ - بخطِّه -: وإني كنتُ رَويتُ عنكُم عن ابنِ
مهديٍّ، عن سُفيانَ، عنِ الأعمشِ، عن أبي صالِح، عن أبي هُرَيرَةَ، عن
النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((أبْرِدوا بالظُّهر؛ فإنَّ
شِدَّة الحرِّ مِن فَيحِ جهنَّمَ))، فقلتَ: هذا غلطٌ؛ الناسُ يروونه "عن أبي سعيدٍ، عنِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم". فوقع ذلك مِن قولِك في نفْسي، فلم أكُنْ أنساه، حتى قَدِمتُ، ونظرتُ في الأصل، فإذا هو "عن أبي سعيدٍ، عنِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -"؛ فإنْ خَفَّ عليك، فأعْلِمْ أبا حاتم - عافاه الله - ومَن سألك مِن أصحابنا؛ فإنَّك في ذلك مأجور - إنْ شاء الله - والعار خيرٌ مِن النار.ولهذا كان أئمَّة الحديث يُجرِّحون الرَّاوي الذي لا يُبالي بنقدِ النقَّاد،ولا يَرجِع عن خطئِه الذي بيَّنه له أهلُ العلم، ويُقيم على رِوايته آنفًا مِن الرُّجوعِ عنه. قيل للإمام شُعبةَ بنِ الحَجَّاج[14]: مَنِ الذي يُترَك الرواية عنه؟ قال: إذا تمادَى في غلطٍ مُجمَع عليه، ولم يتَّهمْ نفسَه عندَ اجتماعهم على خلافِه، أو رجلٌ يُتَّهم بالكذِب.وقال حمزةُ بنُ يوسفَ السهميُّ[15]: سألتُ أبا الحسنِ الدارقطنيَّ؛ عمَّن يكون كثيرَ الخطأ، قال: إنْ نَبَّهوه عليه ورجَع عنه، فلا يَسقُط، وإنْ لم يرجعْ، سَقَط.وقال ابنُ معين[16]: "ما
رأيتُ على رجلٍ خطأً إلاَّ سترتُه، وأحببتُ أن أزيِّن أمرَه، وما أسْتقبِل
رجلاً في وجهِه بأمرٍ يَكرهُه، ولكن أُبيِّن له خطأَه فيما بَيْني وبيْنه،
فإنْ قَبِل ذلك؛ وإلاَّ تركتُه". والترك هنا بمعناه الاصطلاحي،
كما تَقدَّم عن شُعبةَ؛ أي: يترك الروايةَ عنه، لا أن يتركَه وحالَه،
يَرْوي ما يُريد ويحدِّث بما يشاءُ مِن غير أن يبيِّن خطأَه للناس، هذا لا
يُظَنُّ بابنِ مَعينٍ، ولا بغيرِه مِن أئمَّة الدِّين.قيل لابن خُزيمةَ[17]:
لِمَ رويتَ عن أحمدَ بنِ عبدالرحمن بن وَهْب، وتركتَ سفيانَ بنَ وكيع؟
فقال: لأنَّ أحمد بن عبدالرحمن لمَّا أنْكروا عليه تلك الأحاديثَ، رجَع
عنها عن آخِرِها، إلاَّ حديثَ مالك، عنِ الزُّهريِّ، عن أنس: "إذا حضَر العشاءُ"؛ فإنَّه ذَكَر أنَّه وجَدَه في درجٍ مِن كتُب عمِّه في قِرطاس [18]،
وأمَّا سفيانُ بن وكيعٍ، فإنَّ ورَّاقه أدْخَل عليه أحاديثَ، فرواها،
وكلَّمناه، فلم يرجِعْ عنها، فاستخرتُ الله وتركتُ الرِّواية عنه.ومَع ما حبَاهم الله - عزَّ وجلَّ - به مِن سَعة في الحِفظ،
ودقَّة في النَّقْد، وصحَّة في النظَر، وقوَّة في البَحث، وصِدق في الرأي؛
ما كانوا يتفرَّدون بالقول، ولا يَستقلُّون بالحُكم، بل كانوا يَرجِعون
إلى مَن هم أعلمُ منهم، ويَسألون مَن تَقدَّمهم، ويَستشيرون مَن رُزِق الذي
رُزِقوا؛ أهل العِلم والحِفظ والفَهم.يقول الإمامُ مسلم - عليه رحمة الله -[19]: "عرضتُ
كتابي هذا المسنَد على أبي زُرعةَ الرازيِّ، فكلُّ ما أشار أنَّ له عِلة،
تركتُه، وكل ما قال: إنَّه صحيح وليس به عِلَّة، أخرجتُه".وقصَّتُهُ مع الإمامِ البخاري
حين جاءَه يسأله عن عِلَّة حديثِ كفَّارة المجلِس، فيها من العِبرة لمن
بعدَه، ما لا يوجَد في غيرِها، قال أبو حامدٍ الأعمشُ الحافظُ، وهو أحمد بن
حمدون[20]:
كنَّا عندَ محمَّد بن إسماعيل البخاريِّ بنيسابور، فجاء مسلمُ بن
الحَجَّاج، فسألَه عن حديث: عُبيدالله بنِ عمرَ، عن أبي الزُّبَير، عن
جابر: بعثَنا رسولُ اللهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في سَرِيَّة، ومعنا
أبو عُبيدَةَ - فساقَ الحديثَ بطوله، فقال محمدُ بنُ إسماعيل: حدَّثَنا
ابنُ أبي أويس، حدَّثَني أخِي أبو بكر، عن سليمانَ بنِ بلال، عن
عُبيدِالله، عن أبي الزُّبَير، عن جابرٍ - القصة بطولِها، فقرأ عليه إنسان:
حديث حجَّاج بن محمَّد، عن ابنِ جُرَيج، عن موسى بن عُقبةَ: حدَّثَني
سُهيلُ بن أبي صالِح، عن أبي هُرَيرَةَ عنِ النبيِّ - صلَّى الله عليه
وسلَّم - قال: "كفَّارة المجلِس واللغو" ... الحديث، فقال مسلمٌ: في الدُّنيا أحسنُ مِن هذا الحديث! ابن جريج، عن موسى بنِ عُقبةَ، عن سُهيل!
يُعرَف بهذا الإسنادِ حديثٌ في الدُّنيا؟! فقال محمَّد بن إسماعيل: إلاَّ أنَّه معلول!
قال مسلمٌ: لا إلهَ إلا الله - وارتعَد - أخبِرني به؟!! قال: استُر ما
ستَر الله! هذا حديثٌ جليل؛ رَوَى عن حَجَّاجِ بن محمَّد الخَلْقُ، عن ابنِ
جريج! فألحَّ عليه، وقَبَّل رأسه، وكاد أن يَبكي! فقال: اكْتُبْ، إنْ كان
ولا بدَّ: حدَّثني موسى بنُ إسماعيلَ، حدَّثَنا وُهَيْب، حدَّثَنا موسى بن
عُقبةَ، عن عونِ بن عبدِالله، قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه
وسلَّم -: ((كفَّارة المجلِس))، فقال مسلمٌ: لا يُبغِضك إلا حاسدٌ، وأشهَد أنْ ليس في الدُّنيا مِثلُك! وفي روايةٍ: جاءَ
مسلمُ بن الحجَّاج إلى محمَّد بنِ إسماعيلَ البخاريِّ، فقَبَّل بين عينيه،
وقال: دَعْني حتى أُقَبِّل رِجليك، يا أُستاذ الأُسْتَاذين، ويا سيِّد
المحدثين، ويا طبيب الحديث في عِلله.التعريفُ الصَّحيح للسَّند هو: قال ابنُ جماعة في
"المنهل الرَّوي": السَّند هو حِكاية طريقِ المتْنأو
الإخبار عن طريقِ المتْن، والسَّنَد والإسناد والطَّريق سواءٌ عندَ
المُحدِّثين، ولماذا يعدُّ هذا التعريف تعريفًا صحيحًا؟ لأني سأذكُر أنَّ
فلانًا حصَل على الحديثِ وجادة مثلاً؛ أي: إذا قلت: حكاية طريق المتْن،
فلمْ تتركْ شيئًا، بل ستَحكِي جميع ما حدَث في السَّنَد - مثلاً تقول:
حدَّثَني فلان وضحِك، حدَّثني فلان وهو آخِذ بلحيته، وهكذا، فهذا التعريفُ
على الرغم أنَّه مجملٌ إلا أنَّه شامل.
تعريف المتن: ما انتهَى إليه السَّند مِن الكلام؛ أي: الكلام الذي يُذكَر بعدَ سِلسلة الرِّجال، هو قولُ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أو قول الصَّحابي.
الخـبـريَنقسِم الخبر إلى حديثٍ وأثَر، فالخبر أعمُّ مِن الحديثِ والأثَر، وكلُّ حديثٍ خبَرٌ، وكل أثَرٍ خبرٌ.الحديث | الأثَر |
إذا أُطلِق لفظُ حديث، ذَهَب مباشرة إلى ما قالَه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِثل: جاءَ في الحديث: ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّات))، فإنْ لم تكُن حافظًا للحديثِ، فستفهم أنَّه مِن كلام النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأنَّ كلمةَ (حديث) ألِفناها أنَّها تدلُّ على كلامِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقدْ يأتي مع غيرِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مقيَّدًا، مثال: قول القائل: وجاءَ في الحديثِ عن عثمانَ - رضي الله عنه -:"إنَّ الله لَيَزعُ بالسلطانِ ما لا يَزعُ بالقرآنِ".
| إذا أُطلِق لفظُ أثَر، ذهَب مباشرةً إلى ما لم يقلْه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أي: ما قالَه غيرُ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - (قول الصحابيِّ، قول التابعيِّ، قول أيِّ إنسان بسندٍ يُسمَّى أثرًا، أيُّ كلامٍ بسندٍ يُسمَّى أثرًا)، وقد يأتي مع النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مقيدًا، مثال: وجاء في الأثَر عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّات.........)).
|
والأمْر في ذلك واسِع؛ أي: يصحُّ أن تقولَ: جاء في الأثَر: ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّات))، ويصحُّ أن تقول: وجاء في الحديث:
"إنَّ الله لَيَزَعُ بالسلطانِ ما لا يَزَعُ بالقرآن".
فعِلم مصطلحِ الحديث ليس كعِلم الرِّياضيات 1+1= 2؛ بل هو مِن أروعِ العلوم وألينها، وأمْتَعها وأثْراهاوأسهلها
[21]،
والمقصود بالسُّهولة هنا؛ أي: سهولة عباراتِه، وعُذوبة ألفاظِه، أمَّا مَن
أراد أن يَتعلَّمه، فهو عِلم لا يُعطيك بعضَه إلاَّ إذا أعطيتَه كُلَّك،
فقلَّ أن ينبغَ فيه الذُّكورُ كما قلَّ أن ينبغَ فيه النساء،
فهو علمُ الرِّجال مِن الذكور،
فعِلم الحديث صلف، فأينَ عِلم الحديث؟ وأين أهلُه؟ كدتُ ألاَّ أراهم إلاَّ في كتابٍ أو تحتَ تراب. الأدلَّة على أنَّ الأثَر والحديثَ والخبَر بمعنًى واحِد:1) ومِن ذلك قولُ الإمام البخاريِّ: "أحْفَظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح"؛ قال ابنُ الصلاح:
"هذه العبارةُ قدْ يَندرِج تحتَها عندهم آثارُ الصحابة والتابعين، وربَّما عُدَّ الحديث الواحد المروي بإسنادين حديثين"؛
لأنَّه إذا جُمِعَتِ الأحاديثُ الصحيحة لا يُمكن أن تصلَ إلى هذا العدد،
وكذلك الضعيفة لا يُمكن أن تصلَ إلى هذا العدد، فعَرفنا أنَّ الإمامَ
البخاريَّ حين قال هنا:
"حديث" إنما قصَد بكلمة
"حديث" المرفوعاتِ والموقوفاتِ والمقاطيعَ، وقصد أيضًا الأسانيد المتعدِّدة لمتن الواحدٍ، فهُم يطلقون كلمة
"حديث" على الإسناد، فالحديثُ الواحد - أعني: المتن الواحد - إذا ما رُوي بعِدَّة أسانيدَ فكلُّ إسنادٍ مِن تلك الأسانيد يُطلقون عليه لفظ
"حديث".
2) ومن ذلك أيضًا: قول أبي زُرعَة لعبدالله ابن الإمام أحمد بن حنبل:
"أبوك يَحفَظُ ألفَ ألفِ حديث، فقيل له: وما يُدريك؟ قال ذاكَرتُه فأخذتُ عليه الأبواب"؛ قال الإمامُ الذهبيُّ:
"فهذه
الحكايةُ صحيحةٌ في سَعةِ عِلم أبي عبدالله، وكانوا يعدُّون في ذلك
المكرَّر والأثَر وفتوى التابعي وما فسّر، ونحو ذلك، وإلا فالمتون المرفوعة
لا تَبلُغ عُشرَ مِعشار ذلك".
3) ومِن ذلك أيضًا: قولُ الإمام أحمد بن حنبل عليه - رحمة الله تعالى -:
"صحَّ مِن الحديثِ سَبعُمائة ألف حديث وكَسْر، وهذا الفتى - يعني: أبا زُرعة - قد حَفِظ سِتَّمائة ألف حديث"؛ قال الإمام البيهقيُّ:
"وإنَّما
أراد - والله أعلم - ما صحَّ مِن أحاديثِ رسولِ الله - صلَّى الله عليه
وسلَّم - وأقاويلِ الصحابة وفتاوى مَن أَخَذ عنهم مِن التابعين"؛ يعني: أنَّ كلمة
"حديث" ها هنا لم يَقصدْ بها الإمامُ الأحاديثَ المرفوعةَ فحسبُ، بل يدخُل في
كلامِه الأحاديثُ المرفوعةُ وغيرُ المرفوعة، إذًا ترجَّح أنَّ الحديث
والأثَر والخبر بمعنًى واحد، ومَن يريد أن يَتقيَّد بالاصطلاح
(أي: التفريق بين الحديث والخبر والأثر)،
نقول له: جزاكَ الله خيرًا، المسألة لا تحتمل افتراقًا، وكلامك قال به
بعضُ أهل العِلم، وكلامنا - إنْ شاء الله - هو الصواب؛ لأنَّه كلامُ
الأئمَّة.
وكما هو معلومٌ أنَّ الأئمَّة المتقدمين
(والذين هُم أصحاب هذا الفنِّ والعلم) لم يَضعوا تعريفاتٍ لهذه الاصطلاحاتِ، وكما سبق أنْ ذكرنا المراحل
التاريخيَّة لتطوُّرِ عِلم المصطلح، كان الأوَّل الرامهرمزي، ثم الخطيب
البغدادي، ثم ابن الصلاح، ثم ابن حجر - هؤلاء جميعًا استنبطوا من أفعالِ
العلماء وأقوالهم تعريفاتٍ، مثلاً: البخاري لم يَذكُرْ شرطَه في صحيحه،
وإنَّما استنبطه العلماء، والأئمَّةُ المتقدِّمون لم يَتكلَّموا عن
تعريفاتٍ إلا عبْر نُتف يسيرة، مثل الإمام مسلم في مقدِّمة صحيحه، وأبي
داود في رسالته لأهلِ مكة، وبعض الرَّسائل القليلة، ولكن بدأ التصنيفُ في
هذا العِلم بدايةً مِن الرامهرمزي ثم الخطيب ثم ابن الصلاح ثم ابن حجر،
كذلك أُصولُ الفقه أوَّل مَن تَكلَّم فيه الشافعيُّ، بدأ يرَى أنَّ النبي -
صلَّى الله عليه وسلَّم - أتى عنه أمرٌ فقال: لا تفعل كذا، ثم قام - صلَّى
الله عليه وسلَّم - مرة ففَعَل هذا المنهيَّ عنه، فيَنتقِل الأمر مِن
التحريم إلى الكراهة؛ لوجودِ صارفٍ صَرَف الأمرَ المجرَّد مِن التحريم إلى
الكراهة، ألاَ وهو فِعلُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأنَّ نهي النبي
- صلَّى الله عليه وسلَّم - للتحريم، وفعله لهذا المنهيِّ عنه مرةً ينقُل
التحريم إلى الكراهة، فالعلماءُ استنبطوا مِن أقوالِ النبيِّ - صلَّى الله
عليه وسلَّم - وأفعاله هذه القواعِد، ولكن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -
لم يَقلِ: الأمر يُفيد كذا، وإذا صُرِف بصارفٍ يعني كذا؛ ولأنَّ النبيَّ -
صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه هُم أهلُ اللُّغة، فلم يَحْتَجِ
الصحابةُ إلى هذه القواعدِ؛ لعِلمهم باللِّسان العربي، فكانوا يُطبِّقون
هذه القواعدَ سليقةً؛ ولكن نظرًا لدخولِ العُجمة علينا، قامَ العلماء -
جزاهم الله خيرًا - بتوضيحِ هذه الأمور، والتي كانتْ فيمَن سبَقَنا بدهياتٍ
لا تحتاج إلى توضيح، وإنا لله وإنا إليه راجعون!
كذلك
الأئمَّة المتقدِّمون مِن أهل الحديثِ تَكلَّموا وصَنَّفوا، ثم أتَى
العلماءُ الأكابِر ففَهِموا مِن كلامهم ومصنَّفاتهم هذه الاصطلاحاتِ
وجَعَلوها اصطلاحًا،
فكما أنَّ القواعد
النظريَّة لهذا العِلم تُؤخَذ مِن أهله المتخصِّصين فيه، فكذلك يَنبغي أن
يُؤخَذ الجانبُ العمليُّ منهم؛ لا أن تُؤخَذ منهم فقط القواعدُ النظرية، ثم
يتمُّ إعمالها عمليًّا مِن غير معرفةٍ بطرائقهم في إعمالِها وتطبيقِها
وتنزيلِها على الأحاديثِ والرِّوايات؛ فإنَّ أهلَ مَكَّة أعلمُ بشِعابها،
وأهلَ الدار أدْرَى بما فيه، وإنَّ أفضلَ مَنْ يطبِّق القاعدة هو مَن
وَضَعَها وحرَّرها، ونظَم شرائِطَها، وحدَّد حدودَها. فكان
مِنَ اللازم الرجوعُ إلى كتُب عِلل الحديث المتخصِّصة، والبحْث عن أقوالِ
أهلِ العِلم على الأحاديث؛ لمعرفةِ كيفية تطبيقهم هم لتلك القواعدِ
النظريَّة، التي يَقوم عليها هذا البابُ، ومعرفة فِقه تنزيلها على
الرِّوايات والأسانيد. وليس
هذا جنوحًا إلى تقليدِهم، ولا دَعوةً إلى تقديسِ أقوالهم، ولا غَلقًا
لبابِ الاجتهاد، ولا قتلاً للقُدرات والملَكات؛ بل هي دعوةٌ إلى أخْذِ
العِلم مِن أهلِه، ومعرفتِه مِن أربابِه، ودخولِه من
بابه، وتحمُّله على وجهِه. فمَن
يظن أنَّه بإمكانه اكتسابُ ملَكَةِ النقْد، وقوَّة الفَهم، وشفوف
النَّظَر، بعيدًا عنهم، وبمعزلٍ عن عِلمهم، وبمنأًى عن فَهمِهم، فهو ظالِمٌ
لنفسه، لم يبذلْ لها النُّصْح، ولم يبغِ لها الصلاحَ والتوفيق، ولا أَنزل
القومَ منازلهم، ولا قَدَرَهم أقدارهم. فهُم
أهلُ الفَهم، وأصحاب الملَكات، وذَوُو النظرِ الثاقِب، فمَن ابتغى من ذلك
شيئًا، فها هو عندَهم، وهم أربابُه، فليأْخذْه منهم، وليأخذْ بحظٍّ وافر. فمَن
تَضلَّع في عِلمهم، واستزاد مِن خيرِهم، وتَشرَّب مِن فِقههم، واهتدى
بهَديهم، واسترشَد بإرشادِهم، سار على دَرْبِهم، وضرَب على منوالِهم؛ فهو
الناصحُ لنفسه، المُبتغِي لها الصلاحَ والتوفيق، وهو مِن السابقين بالخيرات
- بإذن الله تعالى. ولله
دَرُّ الحافظ ابنِ رجب الحنبليِّ، حيث أوْضَح في كلماتٍ قلائل، أنَّ سبيلَ
تَحصيل المَلَكةِ، إنما هو مداومةُ النظر في مطالعةِ كلامِ الأئمَّة
العارفين، للتفقُّه بفِقههم، والتفهُّم بفَهمهم. يقول ابن رجب[22]:
"ولا بدَّ في هذا العِلم مِن طولِ الممارسة، وكثرةِ المذاكرة، فإذا عَدِمَ
المذاكرة به، فليُكثرْ طالبُه المطالعةَ في كلامِ الأئمَّة العارفين؛
كيَحيى القطَّان، ومَن تلقَّى عنه كأحمد وابن المَديني وغيرهما؛ فمَن رُزِق
مطالعةَ ذلك وفَهمَه، وفَقُهَتْ نفسُه فيه، وصارتْ له فيه قُوَّة نفس،
ومَلَكة، صلحَ له أن يَتكلَّم فيه".هذا،
وإنَّ علامة صِحَّة الاجتهادِ، وعلامة أهلية المجتهِد، هو أن تَكونَ أغلب
اجتهاداتِه وأحكامِه وأقواله موافقةً لاجتهادات وأحكامِ وأقوالِ أهلِ
العِلم المتخصِّصين، والذين إليهم المرجِع في هذا الباب. يقول
الشيخ طارق بن عِوَض الله - حفظه الله تعالى-: "وإنَّ علامةَ صِحَّة
القاعدة التي يَعتمِد عليها الباحثُ في بحثِه، هو أن تكونَ أكثرُ النتائج
والأحكام المتمخِّضة عنها على وَفقِ أقوال أهل العِلم وأحكامهم.فكما
أنَّ الراوي لا يكون ثِقةً محتجًّا به وبحديثه إلاَّ إذا كانتْ أكثرُ
أحاديثه موافقةً لأحاديثِ الثِّقات، المفروغ مِن ثِقتهم، والمسلَّم بحِفظهم
وإتقانهم؛ فكذلك الباحثُ لا يكون حُكمُه على الأحاديث ذا قيمة، إلا إذا
جاءتْ أكثرُ أحكامه على الأحاديث موافقةً لأحكام أهلِ العِلم عليها.وبقدْرِ
مخالفتِه لأهلِ العِلم في أحكامِه على الأحاديث، بقَدْرِ ما يُعلَم قدرُ
الخلَل في القاعدة التي اعتمَد عليها، أو في تَطبيقِه هو للقاعِدة،
وتنزيلها على الأحاديث، فمَن وجَد مِن نفسه مخالفةً كثيرةً لأهل العلمِ في
الحُكم على الأحاديث، فليعلمْ أنَّ هذا إنَّما أُتِي مِن أمرين؛ قد
يجتمعان، وقد يفترقان:أحدهما: عدَمُ ضبْط القاعدة التي بنَى عليها حُكمَه على وَفقِ ضبطِ أهلِ العلم لها.ثانيهما:
ضبْط القاعِدة نظريًّا فقط، وعدَم التفقُّه في كيفية تَطبيقها، كما كان
أهلُ العلم مِن الفِقه والفَهم والخِبرة، بالقَدْرِ الذي يُؤهِّلهم لمعرفةِ
متى وأين تُنزَّل القاعِدةُ، أو لا تُنزَّل".
[1] هذه الانتقادات نقلاً عن الشيخ المحدِّث أبي معاذ طارق بن عِوَض الله في كتابه "لغة المحدِّث". [2] لفظة الثقة هنا يدخُل فيها رُواةُ الحديث الحسَن أيضًا؛ أي: إنَّها تشمل رُواةَ الحديثِ المقبول بشقَّيه: الصحيح والحسن.[3] يقول العلماء: لا يَنبُل العالِم حتى يأخُذ العِلم ممَّن هو فوقه، وممَّن هو في مستواه، وممَّن هو دونه.[4] تعريف الوجادة:
أن يجدَ طالب العلم كتابًا أو أحاديث لشيخِه لم يكُن سَمِعها منه، ولماذا
قيدنا الأمْر بـ لم يكن سَمِعها منه، وما المشكلةُ إنْ كان سمِعها منه؟
لأنَّه إنْ كان سمعها، لحدَّث بها على الاتِّصال مباشرةً دون وجادة، وهذا
شرفٌ؛ لأنَّ الوجادةَ أقل شرفٍ مِن الاستماع، وهو أشرفُ أنواع الاتِّصال أن
تسمعَ مباشرةً مِن شيخك.[5] "العلل" (1879).[6]
هذا في حالِ اجتماعِهم، أما إن اختلفوا، ففي هذه الحالة يسوغ لنا أن
ننظُرَ في أقوالهم ونرجِّح القول الصواب، وما أحسنَ قولَ الحافظ ابن رجب،
حيثُ قال بصدد حديث اتَّفق أئمَّة الحديث مِن السَّلَف على إعلالِه،
واغترَّ بعضُ المتأخِّرين بظاهرِ إسنادِه؛ قال: "هذا الحديثُ مما اتَّفق
أئمَّة الحديث من السَّلَف على إنكارِه على أبي إسحاقَ، وأمَّا الفقهاء
المتأخِّرون، فكثيرٌ منهم نظَر إلى ثقة رجاله، فظنَّ صِحَّته، وهؤلاء يظنون
أنَّ كلَّ حديث رواه ثِقة فهو صحيح، ولا يَتفطَّنون لدقائقِ عِلم علل
الحديث، ووافقَهم طائفةٌ مِن المحدِّثين المتأخرين؛ كالطحاويِّ والحاكِم
والبيهقيِّ".هذا،
وقَدْ وقَع الإسرافُ لدَى المتأخرين من أهلِ العِلم، والمعاصِرين منهم على
وجهِ الخصوص، متمثلاً في بعضِ الباحثين والمعلِّقين على كتُب التراث في
إعمالِ قواعدِ هذا الباب النظريَّة؛ دونما نظَر في الشرائطِ المعتبَرة التي
وضعَها أهلُ العلم لهذه القواعد، ودونما فَهم وفِقه عندَ تطبيقها وتنزيلها
على الرِّوايات والأسانيد، ودونما اعتبارٍ لأحكامِ أهل العِلم ونقَّاد
الحديث على هذه الأسانيد، وتلك الرِّوايات؛ فجاء كثيرٌ مِن أحكامهم مصادمة
لأحكامِ أهل العِلم ونقَّاده عليها، فإنَّ آفةَ الآفاتِ في هذا الباب،
ومنشأ الخَلل الحاصِل فيه من قِبل بعضِ الباحثين هو ممارسةُ الجانب العمَلي
فيه استقلالاً من دون الرجوع إلى أئمَّة العِلم لمعرفة كيفية ممارساتِهم
العمليَّة.[7] نقلاً عن "الإرشادات في تقويةِ الأحاديث بالشواهدِ والمتابعات" لفضيلة الشيخ المحدِّث أبي معاذ طارق بن عِوَض الله.[8] "الجامع" للخطيب (2/39)، و"شرح عِلَل الحديث" (1/535).[9] "سير أعلام النبلاء" (11/89-90) و"الكفاية" (ص 231).[10] "تاريخه" (ص 18 - 20).[11] أي: إذا جاوزتْ حَدَّها الذي لا يُسكِر، إلى حدِّها الذي يُسكِر.[12] "سؤالات ابن محرز" (2/39).[13] "تَقدِمة الجرح والتعديل" (ص: 336).[14] "المجروحين" (1/7) و"الكفاية" (ص: 229).[15] "الكفاية" (ص: 232).[16] "السير" (11/83).[17] "تهذيب الكمال" (1/389).[18]
إنَّما أنكَر الأئمَّة على أحمدَ بن عبدِالرحمن تحديثَه بهذا الحديثِ عن
عمِّه ابنِ وهبٍ عن مالك خاصَّة، وإلا فالحديثُ صحيحٌ ثابت مِن حديث
الزهريِّ عن أنس، مِن غير هذا الوجهِ، وقدْ أخرجه البخاريُّ ومسلمٌ.[19] "صِيانة صحيح مسلِم" لابن الصلاح (ص: 67).[20]
انظر: "الإرشاد" للخليلي (3/960 - 961)، و"السَّنَن الأبين" لابن رشيدٍ
السَّبْتي (ص: 124 - 126)، و"المعرفة" للحاكِم (ص: 113- 114) و"تاريخ
بغداد" (2/28 -29) (13/102 - 103)، و"النُّكت على ابنِ الصلاح" (2/716
-720).[21] المقصود
بالسُّهولة هنا سُهولةُ عباراته، وعُذوبة ألفاظه، وهو بذلك شأنه كشأنِ
باقي العلومِ عندَ أهل السُّنة والجماعة، فالسَّلَف كانوا يُعبِّرون بأسهلِ
الكلمات التي تُوصِّل للمعنى المطلوب وإنْ طال الكلام؛ أي: إنَّ موضوع
التعقيدات التي دخلَتْ في التعريفات بعدَ دخول عِلم الكلام (علوم الفلسفة
والمنطق) لم يكن موجودًا في عهدِ السلف، إنَّما العبرةُ أن يصلَ التعريف
للطالبِ، فيفهم المطلوب وإنْ قصُر الكلام أو طال، وكما قال شيخُ الإسلام
ابن تيمية: "عِلم المنطق والفلسفة عِلمٌ لا يحتاجه الذكيُّ، ولا يفهمه
الغبيُّ".[22] "شرح علل الترمذي" (2/664).