أهل السنة يعلمون الحق ويرحمون الخلق من الصفات السلوكية المهمة لأهل السنة
أنهم يعلمون الحق ويرحمون الخلق، فإنهم أصحاب هدي واتباع، وأرباب عمل
وإقتداء، ومن ثم كانوا أعلم الناس بالحق – حيث يقبلون الحق حيث كان ومع من
كان – وأحرص الناس على تبليغ الدين والدعوة إليه، ومنابذة أهل الأهواء
والبدع ،وفي نفس الوقت فإنهم يرحمون الخلق، ويريدون لهم الخير والهدى، ولذا
كانوا أوسع الناس رحمةً وأعظمهم شفقة، وأصدقهم نصحاً.
يقول ابن تيمية في هذا المقام:
(وأئمة
السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون
الحق الذي يكونون به موافقين للسنة سالمين من البدعة، ويعدلون على من خرج
منها ولو ظلمهم كما قال تعالى: كُونُواْ قَوَّامِينَ
لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى
أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ
اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة: 8].
ويرحمون
الخلق فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون الشر لهم ابتداء، بل
إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم، كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة
الخلق)
.
ويقول ابن رجب في هذا الصدد: (كان خلفاء الرسل وأتباعهم من أمراء
العدل وأتباعهم وقضاتهم لا يدعون إلى تعظيم نفوسهم البتة، بل إلى تعظيم الله
وحده وإفراده بالعبودية والإلهية ومنهم من كان لا يريد الولاية إلا
للاستعانة بها على الدعوة إلى الله وحده.
وكانت الرسل وأتباعهم يصبرون
على الأذى في الدعوة إلى الله ويتحملون في تنفيذ أوامر الله من الخلق غاية
المشقة وهم صابرون بل راضون بذلك، كما كان عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز
رحمه الله يقول لأبيه في خلافته: إذا حرص على تنفيذ الحق وإقامة
العدل يا أبت لوددت أني غلت بي وبك القدور في الله عز وجل، وقال بعض الصالحين:
وددت أن جسمي قُرِض بالمقاريض وأن هذا الخلق كلهم أطاعوا الله عز وجل
(ومعنى هذا أن صاحب هذا القول قد يكون لحظ نصح الخلق والشفقة عليهم من عذاب
الله بأذى نفسه، وقد يكون لحظ جلال الله وعظمته وما يستحقه من الإجلال
والإكرام والطاعة والمحبة، فود أن الخلق كلهم قاموا بذلك وإن حصل له في
نفسه غاية الضرر)
.
إن
التزام أهل السنة بالعلم والعدل أورثهم هذه الخصلة الرفيعة، فمسلك أهل
السنة قائم على العلم والعدل لا الجهل والظلم، حتى كان أهل السنة لكل طائفة
من المبتدعة خير من بعضهم لبعض (بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة
لبعض. وهذا مما يعترفون هم به، ويقولون أنتم تنصفونا ما لا ينصف بعضنا
بعضاً)
.
لقد
تلقي أهل السنة هذه الصفة الحميدة من صاحب الخلق العظيم نبينا محمد صلى
الله عليه وسلم أعلم الناس بالحق وأعظم الناس رحمةً ورأفة، فمن أجل إظهار
الحق بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، ومن أجل نصرة
الحق نجده صلى الله عليه وسلم يغضب أشد
الغضب فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، وكذلك حين رأى بعض أصحابه -رضي
الله عنهم- يتخاصمون في القدر، ثم قال: (مهلاً يا قوم بهذا أهلكت الأمم من
قبلكم باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم ينزل
يكذّب بعضه بعضاً، وإنما نزل يصدق بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به
وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه).
ومع ذلك كله فقد كان صلى الله عليه وسلم هو
الرحمة المهداة، قال تعالى: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 128].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما
خير رسول الله صلى اله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما مالم يكن
إثماً، كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى عليه وسلم لنفسه إلا
أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها)).
وتأمل – أخي القارئ – ما
لقيه صلى الله عليه وسلم من أنواع الأذى في سبيل دعوته ونصحه للخلق، ولما
سألته عائشة رضي الله عنها قائلة: يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من
يوم أحد، فقال: لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذا
عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت
وأنا مهموم على وجهي فلم استفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا
بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع
قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال وسلم عليّ ثم قال: يا
محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال وقد بعثني إليك لتأمرني
بأمرك فما شئت ؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال له رسول الله صلى
الله عليه وسلم: ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا)).
بل إن
الرحمة بالخلق والتمسك بالحق خصلة من خصال الأنبياء كما هو ظاهر في قصصهم عليهم
السلام، ومثال ذلك ما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه حيث قال: كأني
انظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكى نبياً من أنبياء ضربه قومه فأدموه،
وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)).
ولقد
سار سلف الأمة على ذلك، فهذا أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه يقول الحق
ويرحم الخلق، فإنه لما رأى سبعين رأساً من الخوارج وقد جزت تلك الرؤوس
ونُصبت على درج دمشق، فقال رضي الله عنه إعلاماً بالحق: سبحان الله، ما
يصنع الشيطان ببني آدم، كلاب جهنم، شر قتلى تحت ظل السماء.
ثم بكى قائلاً: (بكيتُ رحمة لهم حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام)
.
وكان
أويس القرني – رحمه الله – إذا أمسى تصدق بما في بيته من الفضْل من الطعام
والشراب، ثم يقول: اللهم من مات جوعاً فلا تؤاخذني به، ومن مات عرياناً
فلا تؤاخذني به
.
وكان
عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله – يقول: يا ليتني عملتُ فيكم بكتاب الله
وعملتم به، فكلما عملت فيكم بسنة وقع مني عضو حتى يكون آخر شئ منها خروج
نفسي
.
وقال الفضيل بن عياض – رحمه الله -: إني لأستحي من الله أن أشبع حتى أرى
العدل قد بسط، وأرى الحق قد قام
.
وهذا
الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل – رحمه الله – يثبت على كلمة الحق لا
يخشى في الله لومة لائم، فيقول بكل يقين: القرآن كلام الله غير مخلوق،
ويصبر الإمام على ما أصابه من أنواع الإيذاء والفتنة من قبل رؤوس المعتزلة –
آنذاك – ومن تبعهم من خلفاء كالمأمون والمعتصم والواثق.
(ولما جاءه أحدهم وهو في السجن فقال: الإمام أحمد: إن كان هذا عقلك فقد استرحت)
.
ومما
قاله الإمام الذهبي – رحمه الله – في شأن محنة الإمام احمد: (الصدع بالحق
عظيم، يحتاج إلى قوة وإخلاص، فالمخلص بلا قوة يعجز عن القيام به، والقوي
بلا إخلاص يخذل، فمن بهما كاملاً، فهو صديق، ومن ضَعُف فلا أقل من التألم
والإنكار بالقلب، وليس وراء ذلك إيمان، فلا قوة إلا بالله)
.
لقد كان الإمام أحمد بن حنبل رجلاً ليناً، لكن رأى الناس يجيبون ويعرضون عن الحق، عندئذ ذهب اللين، وانتفخت أوداجه واحمرت عيناه
.
ومع ذلك البطش والجلد والسجن من قبل أولئك الخلفاء إلا أننا نجد هذا الإمام يقول:
(كل من ذكرني ففي حل إلا مبتدعاً، وقد جعلت أبا إسحاق – يعني المعتصم – في حل، ورأيت لله يقول: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النور: 22]. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بالعفو في قصة مسطح، -ثم قال- وما ينفعك أن يعذب الله أخاك المسلم في سبيلك؟
.
وهناك
مثالاً آخر لأئمة أهل السنة، فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقرر
عقيدة السلف الصالح، ويجاهد بلسانه وسنانه طوائف الزيغ والانحراف، فيرد على
أهل الكتاب، ويقمع أكاذيب الباطنية، ويناظر الصوفية وأهل الكلام... وكل
ذلك من أجل بيان الحق وتبليغه.
وفي نفس الوقت فقد كان رحمه الله من أعظم الناس شفقة وإحساناً، وإليك المشاهد الدالة على ذلك:
يقول
تلميذه البار ابن القيم: (جئت يوماً مبشراً له (أي لابن تيمية) بموت أكبر
أعدائه، وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره
إلى بيت أهله فعزاهم، وقال إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه
إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، فسروا به ودعوا له)
.
ولما
مرض ابن تيمية –مرض الوفاة– دخل عليه أحدهم فاعتذر له، والتمس منه أن
يحلله فأجابه الشيخ: (إني قد أحللتك وجميع من عاداني وهو لا يعلم أني على
الحق. وإني قد أحللت السلطان المعظم الملك الناصر من حبسه إياي، كونه فعل
ذلك مقلداً غيره...)
.
وقال أحد خصومه –ابن مخلوف-: (ما رأينا مثل ابن تيمية، حرضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا)
.