ويقول الله عز وجل ثناؤه: وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا
مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ
فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ البقرة: 109].
ففي هذه الآية يحذر الله عباده المؤمنين من سلوك طريق الكفار من أهل
الكتاب ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر وما هم مشتملون عليه من
الحسد للمؤمنين مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم
.
ومن
أساليب الكفار في الصد عن هذا الدين العظيم ومحاولاتهم لإضعاف المسلمين ما
يسعون لتحقيقه جاهدين ببث الفرقة والاختلاف في المجتمع المسلم وإفساد ذات
البين إذ من أكثر ما يؤزهم الجسد الواحد المسلم البناء المتراص المتحاب
ولقد كانت محاولاتهم للتفريق منذ العهد النبوي ويسجل القرآن ذلك لينتبه
المسلمون في حاضرهم ويعتبرون بما حصل من أعدائهم في السابق إذ ما زالوا
يسعون لتحقيق الهدف نفسه: التفريق بين المسلمين يقول الله تعالى: قُلْ
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ
تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ [ آل عمران: 99].
ففي هذه
الآية توبيخ ووعيد من الله تعالى للكفرة من أهل الكتاب على عنادهم للحق
وكفرهم بآيات الله وصدهم عن سبيل الله من أراده من أهل الإيمان بجهدهم
وطاقتهم
.
وهم في ذلك يلتمسون لسبيل الله الزيغ والتحريف ويريدون رد الإيمان والاستقامة إلى الكفر والاعوجاج ويطلبون العدول عن القصد
ويريدون لأهل دين الله الضلال
.
ويروي
محمد بن جرير الطبري رحمه الله سبب نزول هذه الآية: وهو أنه مر شاس بن قيس
ـ وكان شيخا قد عسا في الجاهلية عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد
الحسد لهم ـ على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في
مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه فغاضه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات
بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية فقال: قد
اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد والله مالنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من
قرار فأمر فتى شابا من اليهود وكان معه فقال : اعمد إليهم فاجلس معهم
وذكرهم يوم بعاث، وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فهي من
الأشعارـ وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه
للأوس على الخزرج ـ ففعل فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب
رجلان من الحيين على الركب فتقاولا, ثم قال أحدهما لصحابه: إن شئتم والله
رددناها الآن جذعة, وغضب الفريقان وقالوا: قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم
الظاهرة ـ والظاهرة الحرة ـ فخرجوا إليها وتحاور الناس فانضمت الأوس بعضها
إلى بعض والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية
فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من
أصحابه حتى جاءهم فقال: ((يا معشر المسلمين الله
الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام
وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر بعد إذ هداكم
الله إلى الإسلام وألف به بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا))
فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم فألقوا السلاح من أيديهم
وبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن
قيس وما صنع.
وهذه المحاولات لإضعاف المسلمين وتفريقهم على مبدأ "فرق
تسد" ليست قاصرة على الأعداء من الخارج بل هناك أعداء أخطر منهم أعداء
ينخرون في المجتمع من الداخل: إنهم المنافقون الذين ذكرهم الله في كتابه
وحذر منهم وبيّن شنيع أفعالهم وفضح مخططاتهم التي يستهدفون بها الإسلام
وأهله فكان منهم الإرجاف والتخذيل للمسلمين وبث الخوف من الأعداء بين
المجتمع المسلم ليتنازل عن حقه ودينه يقول الله تعالى: قَدْ
يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ
لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا
قَلِيلًا [ الأحزاب: 18]. ويقول أيضا: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ
وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ
غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ
اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ
وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [آل عمران: 156] .
وهذا الإرجاف والتخذيل وبث الانهزامية في نفوس المسلمين يفعله المنافقون بدافع
الحسد والحقد لأبناء المجتمع المسلم وأشد ما يكدرهم وينغص عليهم فرحتهم أن يصيب المسلمين خير يقول الله تعالى: هَاأَنتُمْ
أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ
كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ
عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ
اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ
وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ
وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا
يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:119ـ 120 ].
وأقصى ما يتمنونه: إخراج المسلمين من الإسلام إلى الكفر حالهم حال أعداء الدين من اليهود والنصارى يقول الله تعالى عنهم: وَدُّواْ
لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ
مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن
تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ
تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا [ النساء: 89].
ولقد
سعى المنافقون جاهدين لإفساد ذات البين والعمل على تفريق جماعة المسلمين
وبث الخلاف في كلمتهم وتفكيك وحدتهم شانهم شأن كل عدو حاقد لهذا الدين.
يقول الله تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ
اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ
الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن
قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ
يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ
أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ
فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ
الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:107-108]
وسبب
نزول هذه الآيات الكريمات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله
عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب وكان قد تنصر في
الجاهلية وقرأ علم أهل الكتاب وكان فيه عبادة في الجاهلية وله شرف في
الخزرج كبير فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة
واجتمع إلى المدينة المسلمون عليه وصارت للإسلام كلمة عالية وأظهرهم الله
يوم بدر شرق اللعين بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها وخرج فارا إلى كفار مكة
من مشركي قريش يمالئهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا بمن
وافقهم من أحياء العرب وقدموا عام أحد فكان من أمر المسلمين ما كان ولما
فرغ الناس من أحد ورأى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور ذهب
إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم فوعده ومناه
وأقام عنده وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم
ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه
ويرده عما هو فيه, وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من
عنده لأداء كتبه ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك فشرعوا في بناء مسجد
مجاور لمسجد قباء فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى تبوك وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي
إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته وذكروا إنما
بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية فعصمه الله من الصلاة فيه,
فقال: ((إنا على سفر ولكن إذا رجعنا إن شاء الله))
فلما قفل عليه السلام راجعا إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا
يوم أو بعض يوم نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر
والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء الذي أسس من أول يوم على
التقوى فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هدمه قبل
مقدمه المدينة
.
فانظر
رعاك الله وتأمل سبب نزول هذه الآيات وكيف حرص المنافقون على تفريق
المسلمين باتخاذ مسجدا ضرارا لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كفرا
بالله ومحادة لرسول صلى الله عليه وسلم فيصلي فيه بعض المؤمنين دون مسجد
رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعضهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيختلفوا بسبب ذلك ويفترقوا
يقول عبدالله بن عباس رضي الله عنهما : " لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قباء خرج رجال من الأنصار فبنوا مسجد النفاق
ويقصد بمسجد النفاق: مسجد الضرار المذكور في الآية.
وهؤلاء المنافقون رغم أعمالهم الشنيعة وأفعالهم المفضوحة ما زالوا يحاولون الاستتار وإظهار خلاف ما يبطنون لذلك دائما يزعمون
الإحسان ويرفعون شعار الإصلاح لتروج أكاذيبهم وتنطوي حيلهم وخدعهم على ضعاف
الإيمان وعلى قليلي العلم لذلك زعموا أن قصدهم من بناء هذا المسجد كل خير
وإحسان فقالوا: وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى
ولكن هيهات أن تنطلي حيل المنافقين وأكاذيبهم على رب العالمين ولا على عباده العالمين بقول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم.
لذلك نهى الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم والأمة تبع له في ذلك عن أن يقام في هذا المسجد الضرار أي : يصلي فيه أبدا فقال: لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا.
ثم
حثه على الصلاة بمسجد قباء الذي أسس من أول يوم بنائه على التقوى: وهي
طاعة الله وطاعة رسوله وجمعا لكلمة المؤمنين ومعقلا وموئلا للإسلام وأهله
فقال سبحانه: لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ [التوبة : 108 ]
فها
هي ذا الحوادث والوقائع منذ القرن الأول للإسلام ومحاولات أعداء الدين في
تفريق المسلمين التي سجلها القرآن الكريم كل ذلك نهيا للأمة عن الفرقة
وتحذيرا منها فهل يدفع ذلك المسلمين إلى الاتحاد وجمع الكلمة ورأب الصدع؟
وهل تستفيق الأمة من غفلتها؟ وتعمل على توحيد صفوفها إذ في ذلك قوتها
وإعلاء لدينها وغيظ ودحر لعدوها أسأل الله ذلك فالمستقبل للأمة مشرق والوعد
الرباني محقق كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون))