إن ضرر الفرقة عظيم، وخطرها جسيم على المسلمين أجمع، ولعل القارئ لحظ معنا
في الفصول الماضية كيف أن شرر الفرقة كان باديا، وضررها كان فاشيا ينهش في
جسد الأمة، ومن هذه المضار:
أولا – تعطيل الجهاد في سبيل الله، وتسلط الأعداء على الأمة المسلمة
لقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالجهاد في سبيله فقال عز من قائل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التوبة:73].
وقال سبحانه: انْفِرُواْ
خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي
سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة: 41]. ولقد جعل الجهاد ذروة سنام الإسلام التي يعلو بها الأمم، كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد))
.
ثم إن
الذل والمهانة تقع على الأمة إذا تركت الجهاد في سبيل الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم))
.
يقول
علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إن الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله
لخاصة أوليائه، وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنته الوثيقة، فمن
تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل، وشمله البلاء، وديث بالصغار والقماءة،
وضرب على قلبه بالأسداد، وأديل الحق منه بتضييع الجهاد، وسيم الخسف، ومنع
النصف ... فو الله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا"
.
إن
الأمة القوية والدولة المتماسكة العاملة بأمر الله وأمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم هي التي تستطيع أن تقيم الدين وترفع علم الجهاد، ومتى ما
شغلت الأمة بهمومها، وانصرفت الدولة إلى تسكين الثائرة بين أبنائها، وتوطيد
حكمها، فهي مشغولة عن جهاد عدوها.
وحينما تنشغل الأمة بآلامها، وتضعف
لتفرقها وتترك جهاد أعداء الدين، فلا ريب أن العدو يتربص بها، ويتسلط
عليها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله
زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي
منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها
بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم. وإن ربي
قال: يا محمد إني إذ قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا
أهلكهم بسنة بعامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم،
ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا))
.
ومعنى
الحديث: إن الله تعالى لا يسلط العدو على كافة المسلمين حتى يستبيح ما
حازوه من البلاد. فالله لا يسلط الكفار على معظم المسلمين وجماعتهم وإمامهم
ماداموا بضد هذه الأوصاف المذكورة في قوله: "حتى يكون بعضهم يهلك بعضا،
ويسبي بعضهم بعضا. فأما إذا وجدت هذه الأوصاف فقد يسلط الكفار على جماعتهم
ومعظمهم وإمامهم كما وقع
.
فإن هذه الأمة لما جعل بأسها بينها تفرقت جماعتهم، واشتغل بعضهم ببعض عن جهاد العدو فاستولى
.
وحاضر
العالم الإسلامي برهان واقع، وتاريخها الماضي أصدق شاهد؛ أنه متى عز
المسلمون دينهم، وأقاموا شرع الله تعالى، وامتثلوا أمره ونهيه علماء وأمراء
وعامة، وائتلفوا واجتمعوا صفا واحدا ضد عدوهم فهم الأعلون الغالبون.
أما إذا ضعف الامتثال لأمر الشريعة، وتفرقت الأمة واشتغلت بقتال بعضها بعضا، فهنا يتسلط العدو ويغلب وينتصر.
يقول
ابن كثير واصفا حال الخلافة الإسلامية من عز وجهاد عند اتحاد صف المسلمين
في خلافة عمر وعثمان وواليه معاوية رضي الله عنهم للشام، فيقول: "ولم تزل
الفتوحات والجهاد قائما على ساقه في بلاد الروم والفرنج وغيرها، فلما كان
من أمره وأمر أمير المؤمنين علي ما كان، لم يقع في تلك الأيام فتح بالكلية،
لا على يديه ولا على يدي علي، وطمع في معاوية ملك الروم بعد أن كان قد
أخشاه وأذله، وقهر جنده ودحاهم، فلما رأى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب
علي؛ تدانى إلى بعض البلاد في جنود عظيمة وطمع فيه، فكتب معاوية إليه:
"والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين لأصطلحن أنا وابن عمي عليك،
ولأخرجنك من جميع بلادك، ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت". فعند ذلك خاف ملك
الروم وانكف وبعث يطلب الهدنة.
ثم كان من أمر التحكيم ما كان، وكذلك ما
بعده إلى وقت اصطلاحه مع الحسين بن علي فانعقدت الكلمة على معاوية، وأجمعت
الرعايا على بيعته. فلم يزل مستقلا بالأمر في هذه المدة إلى هذه السنة التي
كانت فيها وفاته؛ والجهاد في بلاد العدو قائم، وكلمة الله عالية،والغنائم
ترد إليه من أطراف الأرض، والمسلمون معه في راحة وعدل، وصفح وعفو
.
هذا
هو حال أعداء الإسلام يتربصون بنا الدوائر، فما أن تحل الفرقة بين
المسلمين حتى يثوروا ويغزوا بلاد الإسلام، يقول ابن كثير: "ثم دخلت سنة
70هـ فيها ثارت الروم واستجاشوا على من بالشام، واستضعفوهم لما يرون من
الاختلاف الواقع بين بني مروان وابن الزبير، فصالح عبدالملك ملك الروم
وهادنه على أن يدفع إليه عبدالملك في كل جمعة ألف دينار خوفا منه على الشام
.
فالله
المستعان، بعد أن كان ملك الروم يدفع الجزية للمسلمين، صار المسلمون
يدفعون له ثمن سكوته وكفه عن بلادهم، فأي ضرر أشد على الأمة من تسلط
أعدائها بسبب فرقتها واختلافها فيما بينها، فهل ينظر المسلمون إلى تاريخهم،
ويتعظوا بأسلافهم، ويعودوا إلى الاجتماع صفا مرصوصا ويدا واحدة وجماعة
متحدة، تعمل بكتاب ربها وتهتدي بسنة نبيها صلى الله عليه وسلم ضد عدوها؟
نسأل الله ذلك.
ويعطينا شيخ الإسلام ابن تيمية صورا عدة تظهر تسلط العدو
الكافر على الأمة المسلمة حينما تتفرق وتختلف فيقول: "وبلاد الشرق من
أسباب تسليط الله التتر عليها، كثرة التفرق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها
.
ويقول:
"وفي دولة بني بوية ونحوهم كان منهم أصناف المذاهب المذمومة، قوم منهم
زنادقة، ومنهم قرامطة كثيرة، ومتفلسفة، ومعتزلة، ورافضة، وهذه الأشياء
كثيرة فيهم غالبة عليهم، فحصل في أهل الإسلام والسنة في أيامهم من
الوهن ما لم يعرف، حتى استولى النصارى على ثغور الإسلام، وانتشرت القرامطة في أرض مصر والمغرب والمشرق وغير ذلك، وجرت حوادث كثيرة
.
ويقول
مبينا سبب هذا التسليط: "وهذا التفريق الذي حصل من الأمة – علمائها
ومشايخها وأمرائها وكبرائها- هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها، وذلك بتركهم
العمل بطاعة الله ورسوله كما قال تعالى: وَمِنَ
الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ
حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ
بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [المائدة: 14]
.
نعم،
إن الله يعاقب الأمة المسلمة حينما تعصيه, ويعذبها بما يدب بينها من فرقة
وتناحر حينما تتهاون في العمل بكتابها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، فهل
من عودة إلى الدين والعمل به؟ ليعود للأمة مجدها وسيادتها
ثانيا- ذهاب قوة المسلمين
إن
من مضار الفرقة الجسيمة والتي تقع على الأمة ما يحدث بسببها من ذهاب قوة
المسلمين: القوة المعنوية، والقوة المادية، لما تسببه الفرقة من تناحر
وتقاتل بين الجماعات المسلمة كما في الحديث: ((حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا))
ولما نزل قوله تعالى: قُلْ
هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ
أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ
بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ
يَفْقَهُونَ [الأنعام: 65].
فاستجاب
الله دعاء نبيه وأعاذه من الأمرين الأولين، ولم يجبه في الأمرين الآخرين
وهو أن يجعلهم فرقا مختلفين، ويذيق بعضهم بأس بعض بالحروب والقتل
.
إن
الفرقة متى ما دبت في الأمة قاتل بعضهم بعضا، وصار كل يريد الغلبة لنفسه،
والسيادة لملكه، وتحقيق مصلحة نفسه، حتى لو قتل أخاه المسلم، وسبى أهله
واعتدى على أرضه وماله.
ولعل المسلم ينظر ويعتبر بما حصل من مفاسد عظيمة
جراء الخروج على عثمان رضي الله عنه، ومفارقة الجماعة والإمام؛ فخرج عليه
السفهاء الجهلاء حتى قتلوه شهيدا مظلوما رضي الله عنه وأرضاه.
ولقد نبه
عثمان رضي الله عنه وحذر الذين حاصروه يريدون قتله ونبههم على ضرر الفرقة
فقال: "يا أيها الناس لا تقتلوني واستتيبوني، فوالله لئن قتلتموني لا تصلون
جميعا أبدا، ولا تجاهدون عدوا جميعا أبدا، ولتختلفن حتى تصيروا هكذا، وشبك
بين أصابعه"
.
ولما قتل عثمان قال حذيفة بن اليمان : "والله لئن كان قتله خيرا ليحلبنها لبنا، ولئن كان قتله شرا ليمتصن بها دما
. وقال عبدالله بن سلام رضي الله عنهم يوم قتل عثمان: "اليوم هلكت العرب"
. وقال: "والله لا تهرقون محجما من دم إلا ازددتم من الله بعدا"
.
ولقد
امتصت الأمة الدماء بقتل عثمان رضي الله عنه، فبعد الرخاء والأمن بدأت
الفتن تثور بين المسلمين وفي بلادهم، وبدأ القتال والتفرق يطحن في كيان
الأمة، فجاءت وقعة الجمل، وأعقبتها صفين، وقتل من المسلمين خلق كثير، فقتل
في الجمل قرابة العشرين ألفا، وفي صفين سبعون ألفا
. وما توالى على المسلمين من وقائع ونكبات أشد وأنكى.
وانظر
كيف أشغلت الخلافة الإسلامية في العصور الماضية والحاضرة بقتال الفرق
الخارجية الشاقة لعصا الطاعة، وكم من الدماء سفكت لتسكين ثائرتها؟ وكم من
الأموال أنفقت لإسكات هذه الفرق؟
إن زعزعة الأمن، وإثارة القلاقل والفتن
في المجتمع المسلم تنهك اقتصاده، وتبعثر طاقاته التي من المفترض أن تجتمع
لإعمار الأرض بدين الله، والدعوة إلى توحيد المولى سبحانه، والجهاد في
سبيله لإقامة الحق ورد الباطل.
فهل يكف هؤلاء المبتدعة أصحاب الفرقة عن
مساعدة أعداء الإسلام على الإسلام وأهله؟ وليتقوا الله فيما يقومون به
ويفعلونه من إذهاب قوة المسلمين، وإضعاف مواردهم. وليعودوا إلى كتاب الله
وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليسيروا مع الجماعة المسلمة على الصراط
المستقيم لتكون صفا واحدا يعلو ويعلو ...، ويرد كيد الأعداء، ويتذكروا قول
المولى عز وجل: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران: 103].
ثالثا: الهزيمة والفشل
مما
لا شك فيه أن الهزيمة والفشل تصيب الجماعة المتفرقة، المختلفة فيما بينها،
والمعترضة على قيادتها، إذ كيف ينتصرون ويغلبون وهم لم ينتصروا بعد على
هوى أنفسهم، ولم يغلبوا شيطانهم.
ولقد نبه المولى العزيز سبحانه عباده
المؤمنين على ذلك، وأمرهم بالاجتماع على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله
عليه وسلم ليتحقق لهم النصر على عدوهم، ولكن إن أبو إلا التفرق والاختلاف
فالضرر لاحق بهم من الهزيمة والفشل.
يقول الله عز وجل: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ
وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ وَأَطِيعُواْ
اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ
وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 45-46].
فيا أيها المؤمنون أطيعوا ربكم ورسولكم فيما أمركم به ونهاكم عنه، ولا تخالفوهما في شيء، وَلاَ تَنَازَعُواْ أي : لا تختلفوا فتفرقوا وتختلف قلوبكم. فَتَفْشَلُواْ أي : فتضعفوا وتجبنوا. وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ أي : تذهب قوتكم وبأسكم ووحدتكم، وتنقطع دولتكم، ويدخلكم
الوهن والخلل
، والضعف عن جهاد العدو والانكسار له
.
لذلك يوصيهم الله عز وجل بالصبر فيقول في ختام الآية: وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم في باب
الشجاعة والائتمار بما أمرهم الله ورسوله، وامتثال ما أرشدهم إليه ما لم يكن لأحد
من الأمم والقرون قبلهم، ولا يكون لأحد ممن بعدهم، فإنهم ببركة الرسول صلى
الله عليه وسلم وطاعته فيما أمرهم فتحوا القلوب والأقاليم شرقا وغربا في
المدة اليسيرة، مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم من الروم
والفرس والترك والصقالبة والبربر والجيوش وأصناف السودان والقبط وطوائف بني
آدم، قهروا الجميع حتى علت كلمة الله وظهر دينه على سائر الأديان، وامتدت
المماليك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها في أقل من ثلاثين سنة فرضي
الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وحشرنا في زمرتهم إنه كريم تواب
.
إن
القوة والنصر مع الوحدة والجماعة: وحدة الرأي، ووحدة القيادة، ووحدة
القوة، وإن الهزيمة والفشل مع الفرقة والاختلاف وتعدد القيادات حتى لو كثر
العدد.
مثال ذلك ما حكاه الإمام ابن كثير رحمه الله يقول: "لما مات علي
قام أهل الشام فبايعوا معاوية على إمرة المؤمنين لأنه لم يبق له عندهم
منازع، فعند ذلك أقام أهل العراق الحسن بن علي رضي الله عنه ليمانعوا به
أهل الشام، فلم يتم لهم ما أرادوه وحاولوه، وإنما كان خذلانهم من قبل
تدبيرهم وآراؤهم المختلفة المخالفة لأمرائهم، ولو كانوا يعلمون لعظموا ما
أنعم الله به عليهم من مبايعتهم ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيد
المسلمين، وأحد علماء الصحابة وحلمائهم وذوي آرائهم.
وعن الزهري أنه
قال: لما بايع أهل العراق الحسن بن علي طفق يشترط عليهم أنهم سامعون مطيعون
مسالمون من سالمت، محاربون من حاربت، فارتاب به أهل العراق وقالوا: ما هذا
لكم بصاحب؟ فما كان عن قريب حتى طعنوه فأشووه، فازداد لهم بغضا وازداد
منهم ذعرا، فعند ذلك عرف تفرقهم واختلافهم عليه"
. ثم كان ما كان من الصلح مع معاوية وتنازله عن الخلافة له، فرضي الله عنهم وأرضاهم
.
رابعا- خروج الفرق، وفشو الفتن والبدع
ما
أن تتفرق الأمة، وتخالف أمر الله تعالى لها بالتزام الجماعة وسلوك الصراط
المستقيم إلا وتقوى الفرق، وتخرج على إمام المسلمين، وتقاتل الجماعة، وتوقد
معها الفتنة، وتنشر معها البدعة مما يزيد الأمة وهنا، والمسلمين بلاء،
ولقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخوارج: ((أنهم يخرجون في فرقة من الناس))
وهذا
شأن الفرق المبتدعة، شأن الضلالات والظلمات لا تجسر على الخروج إلا عند
ضعف شمس الحق، يقول ابن تيمية رحمه الله: "وتجد الإسلام والإيمان كلما ظهر
وقوي كانت السنة وأهلها أظهر وأقوى، وإن ظهر شيء من الكفر والنفاق ظهرت
البدع بحسب ذلك، مثل: دولة المهدي، والرشيد ونحوهما ممن كان يعظم الإسلام
والإيمان، ويغزو أعداءه من الكفار والمنافقين، كان أهل السنة في تلك الأيام
أقوى وأكثر، وأهل البدع أذل وأقل ...
وفي دولة أبي العباس المأمون ظهر "الخرمية"
ونحوهم
من المنافقين، وعرب من كتب الأوائل المجلوبة من بلاد الروم ما انتشر بسببه
مقالات الصابئين، وراسل ملوك المشركين من الهنود ونحوهم حتى صار بينه
وبينهم مودة.
فلما ظهر ما ظهر من الكفر والنفاق في المسلمين
،
وقوي ما قوي من حال المشركين وأهل الكتاب، كان من أثر ذلك ما ظهر من
استيلاء الجهمية والرافضة وغيرهم من أهل الضلال، وتقريب الصابئة ونحوهم من
المتفلسفة ...
فتولد عن ذلك محنة الجهمية حتى امتحنت الأمة بنفي الصفات
والتكذيب بكلام الله ورؤيته، وجرى من محنة الإمام أحمد وغيره ما جرى مما
يطول وصفه"
.
خامسا – وقوع العداوة والبغضاء، وذهاب
المحبة والألفة:
إن من أصول الدين العظيمة، وقواعده المهمة التي هي من جماع الدين ما وصى الله به من تأليف القلوب واجتماع الكلمة وصلاح ذات البين
.
ولكن
يأبى أهل الفرقة والبدعة ذلك فما يزالون يهدمون الدين، ويفرقون قلوب
المسلمين، ويوقعون بينهم العداوة والبغضاء بما يفعلونه من تفريق المسلمين
شيعا وأحزابا، يقول الله تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ
وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا
لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم: 31 -32].
ولقد
أخبر الله عز وجل عن حال أهل الفرقة والاختلاف من التنازع والشقاق الواقع
بينهم، والذي هو مظنة إلقاء العداوة والبغضاء، قال الله تعالىفَإِنْ
آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ
فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ [البقرة: 137]. وقال عز وجل: لِيَجْعَلَ
مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ
وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [الحج: 53].
فهؤلاء
المفارقين للجماعة، المخالفين للحق في شقاق: عداوة ومنازعة للحق وأهله،
وعداوة ومنازعة فيما بينهم، يسعون لشق عصا الطاعة ولصدع الكلمة، وكما وصفهم
سبحانه: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ [الحشر: 14].
إن كل هذه العداوة والبغضاء التي بين أهل الفرقة وبين أهل الحق، والتي هي
فيما بين المختلفين أنفسهم كلها بسبب تركهم ما أمروا به من الجماعة وإقامة
الألفة والمحبة في المجتمع المسلم، يقول الله تعالى: وَمِنَ
الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ
حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ
بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [المائدة: 14].
يقول
ابن تيمية رحمه الله: "فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم
العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا
وملكوا، فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب"
.
ويبين
الإمام الشاطبي كيف يوقع أهل الفرقة بتفرقهم العداوة والبغضاء في الأمة
فيقول: "وقد بين عليه الصلاة والسلام أن فساد ذات البين هي الحالقة، وأنها
تحلق الدين، هذه الشواهد تدل على وقوع الافتراق والعداوة عند وقوع
الابتداع. وأول شاهد عليه في الواقع قصة الخوارج إذ عادوا أهل الإسلام حتى
صاروا يقتلونهم، ويدعون الكفار كما أخبر عنه الحديث الصحيح، ثم يليهم كل من
كان له صولة منهم بقرب الملوك، فإنهم تناولوا أهل السنة بكل نكال وعذاب
وقتل أيضا، حسبما بينه جميع أهل الأخبار.
ثم يليهم كل من ابتدع بدعة فإن
من شأنهم أن يثبطوا الناس عن اتباع الشريعة، ويذمونهم ويزعمون أنهم
الأرجاس الأنجاس المكبين على الدنيا، ويضعون عليهم شواهد الآيات في ذم
الدنيا وذم المكبين عليها، كما يروى عن عمرو بن عبيد أنه قال: "لو شهد عندي
علي وعثمان وطلحة والزبير على شراك نعل ما أجزت شهادتهم"
وقيل له: كيف حدث الحسن عن سمرة
.في
السكتتين؟ فقال: "ما تصنع بسمرة!! قبح الله سمرة" . بل قبح الله عمرو بن
عبيد. فهكذا أهل الضلال يسبون السلف الصالح لعل بضاعتهم تنفق ، يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة: 32].
وأصل
هذا الفساد من قبل الخوارج فهم أول من لعن السلف الصالح، وكفر الصحابة رضي
الله عن الصحابة، ومثل هذا كله يورث العداوة والبغضاء
.
ولما
كانت الفرقة بهذه الخطورة وهذا الضرر كان الصحابة رضي الله عنهم أبعد ما
يكون عنها، وأسلم الناس منها كما سيأتي ويتضح في المبحث القادم إن شاء
الله.