إن من أعظم ما فرق الأمة الإسلامية وأوهن جسدها: الابتداع في دين الله
تعالى، إذ لو فتح الباب لكل إنسان أن يقول في الدين برأيه، وأن يحدث في
الشرع ما يستحسنه بذوقه لتفرقت سبل الضلالات بالجماعة المسلمة ـ وهي الآن
كذلك ـلذلك نهينا عن اتباع السبل وأمرنا باتباع الصراط المستقيم كما يقول
الله سبحانه وتعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي
مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ
بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الأنعام: 153[]
ولقد
عنون الإمام الآجري الباب الأول من كتابه كتاب (الشريعة) : " باب : ذكر
الأمر بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة بل الاتباع وترك الابتداع
.، فهو يرى رحمه الله أنه بلزوم الجماعة يكون الاتباع وإن الفرقة تكون بالابتداع في دين الله.
ولقد
جاء الأمر الأكيد بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والتحذير من
الإحداث في الدين الذي لا يكون إحداثا إلا بترك سنة الرسول صلى الله عليه
وسلم, يقول الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [ النساء: 59].
ويقول: وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا [ الأحزاب:36 ].
وحذر صلى الله عليه وسلم من الإحداث في الدين فيقول: ((إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة))
.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنه ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه السيف كائنا من كان))
. والهنات جمع هنة: والمراد بها هنا الفتن والأمور الحادثة
.
فالبدع والمحدثات تفرق الأمة المسلمة وفي حديث آخر بين صلى الله عليه وسلم
أن في ترك سنته واتباع البدع تفريق للجماعة فيقول حذيفة بن اليمان رضي
الله عنه : ((كان الناس يسألون رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله
إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟
قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم. وفيه دخن قلت: وما
دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر قلت: فهل بعد ذلك الخير من
شر؟ قال نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها قلت: يا
رسول الله صفهم لنا قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قال: فما تأمرني
إن أدركني ذلك ؟ قال تلزم جماعة المسلمين وإمامهم قلت: فإن لم يكن لهم
جماعة ولا إمام قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك
الموت وأنت على ذلك))
فذكر
صلى الله عليه وسلم من الأحوال التي ستحدث أنه سيأتي أقوام يهدون بغير
هديه ويستنون بغير سنته وذكر صلى الله عليه وسلم الدعاة على أبواب جهنم وهم
من كان من الأمراء يدعو إلى بدعة أو ضلال كالخوارج والقرامطة
.
وكأن
حذيفة رضي الله عنه فهم أن الأحوال السابقة من ترك السنة والعمل بالبدعة
والدعوة إليها، كفيل بتمزيق الجماعة المسلمة لذلك سأل لما أمره صلى الله
عليه وسلم بلزوم الجماعة فقال : " فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟
وفي
حديث آخر يبين صلى الله عليه وسلم أن هذه البدع وهذا الإحداث في الدين يفرق
الأمة المسلمة ويوقعها في الاضطراب فتهتز السلطة والقيادة، والذي من شأنه
أن يريق دماء المسلمين لذلك يوصينا صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة على
من تولى أمر المسلمين واجتمعت عليه كلمتهم ولو عبدا حبشيا ما دام أنه يسير
بهم بكتاب الله تعالى فالعلاج الوحيد لما ستقع فيه الأمة ـ وهي واقعة الآن
فيه ـ من الاختلاف والفرقة هو اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة
الخلفاء الراشدين من بعده والابتعاد عن هذه الضلالات المفرقة للجماعة فعن
العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : ((وعظنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب
فقال رجل: إن هذه موعظة مودع فبماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟قال: أوصيكم
بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبد حبشي فإنه من يعش منكم يرى اختلافا
كثيرا وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي
وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ))
.
ولخطورة البدعة يحذرنا منها صلى الله عليه وسلم وينهانا عنها فيقول: ((إياكم والبدع))
. وليعلم أن الافتراق من لوازم البدعة والفرقة من سمات أصحابها يقول سبحانه وتعالى: وَلاَ
تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا
جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [ آل عمران: 105] . قال قتادة: يعني أهل البدع
.
يقول الشاطبي رحمه الله: "والفرقة من أخس أوصاف المبتدعة لأنه خرج عن حكم الله وباين جماعة أهل الإسلام
.
ولقد جاء الحكم صريحا فيمن أحدث في الدين فقال عليه الصلاة والسلام: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))
. أي: مردود عليه غير مقبول، لما في هذا الإحداث من خطر بالغ على الدين يقول الإمام ابن القيم: ولهذا اشتد نكير السلف والأئمة لها
،
وصاحوا بأهلها من أقطار الأرض، وحذروا فتنتهم أشد التحذير وبالغوا في ذلك
ما لم يبالغوا مثله في إنكار الفواحش والظلم والعدوان إذ مضرة البدع وهدمها
للدين ومنافاتها له أشد
.
ولقد
حذر الصحابة من البدع، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن أصدق القيل
قيل الله, وإن أحسن الهدي هدي محمد, وشر الأمور محدثاتها
.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار
.
ولقد
اشتد نكير ابن مسعود على من أحدث في الدين وابتدع قولا وعملا ومن ذلك أنه
جاء رضي الله عنه إلى قوم حلق جلوس في المسجد ينتظرون الصلاة وفي كل حلقة
رجل وفي أيديهم حصى فيقول: كبروا مئة فيكبرون فيقول هللوا مئة فيهللون مئة
ويقول سبحوا مئة فيسبحون مئة . فجاءهم رضي الله عنه مع جمع من أصحابه ووقف
على إحدى تلك الحلق وقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: حصى نعد به
التكبير والتهليل والتسبيح. قال فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضع من
حسناتكم شيء! ويحكم يا أمة محمد! ما أسرع هلكتكم هؤلاء صحابة نبيكم صلى
الله عليه وسلم متوافرون وهذه ثيابه لم تبل وآنيته لم تكسر والذي نفسي بيده
إنكم لعلى ملة أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة. قالوا: والله يا أبا
عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم حدثنا: ((إن قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم)) وأيم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم. ثم تولى.
قال عمرو بن سلمة الكوفي: رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج
.
وفي رواية أخرى: أنه ما زال يحصبهم بالحصا حتى أخرجهم من المسجد وهو يقول: لقد أحدثتم بدعة ظلماً أو قد فضلتم أصحاب محمد علماً
.
فانظر
كيف أنكر عليهم ابن مسعود بشدة ولم يعذرهم لحسن نيتهم بل قال: وكم من مريد
للخير لن يصيبه, إذ لا تكفي النية الحسنة للفعل ليقبل, بل لا بد من اتباع
هدي محمد صلى الله عليه وسلم وسنته...
ويوصي ابن مسعود رضي الله عنه بالاتباع فيقول: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم.
ويقول ابن عباس: عليكم بالاستقامة والاتباع, وإياكم والبدع
.
ويقول الزبير بن العوام: السنن السنن فإن السنن قوام الدين
.
ووصايا
الصحابة كثيرة متضافرة تأمر بالاتباع وتحذر من الابتداع ولقد سار من بعدهم
على نهجهم من التحذير من البدع فأفردوا مصنفات خاصة تأمر بالاتباع ولزوم
السنة وتحذر من البدع لخطورتها. حتى لو عدت البدعة بسيطة أو بدا الإحداث في
الدين صغيراً, أو كان أمرا فرعياً ميسوراً, فإن لهذا خطره ويجب الحذر منه
والنهي عنه.
يقول الإمام البربهاري: واحذر صغار المحدثات من الأمو, فإن
صغير البدع يعود حتى يصير كبيراً, وكذلك كل بدعة أحدثت في هذه الأمة كان
أولها صغيرا يشبه الحق فاغتر بذلك من دخل فيها، ثم لم يستطع الخروج منها
فعظمت وصارت دينا يدان بها فخالف الصراط المستقيم فخرج من الإسلام. فانظر
رحمك الله كل من سمعت من أهل زمانك خاصة فلا تعجلن ولا تدخلن في شيء منه
حتى تسأل وتنظر هل تكلم به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد من
العلماء فإن وجدت فيه أثرا عنهم فتمسك به ولا تتجاوز لشيء ولا تختار عليه
شيئا فتسقط في النار
.
إن
هذا التحذير من البدعة والهلاك الذي يحيط بصاحبها ليس فقط لخطورة البدعة
على الفرد بل لخطورتها على الأمة وتقويضها لأركان الدين, ولقد أدرك أعداء
الدين خطورة البدع وأهميتها في تفريق الجماعة المسلمة وزعزعة العقيدة
الإسلامية التي توحد المسلمين وتجمعهم فعملوا على إشعال البدع بين المسلمين
ومساندتها ورعايتها فما خرجت السبئية إلا من أحضان اليهودية، وما ضل جهم
بن صفوان إلا بعد مناقشته للسمنية
.
وما
المعتزلة ومناهجهم الكلامية إلا من أثر الفلسفة اليونانية. وما زال أعداء
الإسلام يواصلون طريقهم في محاولات جادة لإضلال المسلمين وصدهم عن دينهم
بالتشكيك في السنة النبوية والطعن في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم
وإثارة الشبهات حولها
.
وما
يقوم به المستشرقون من العمل على إخراج كتب البدع وتحقيقها ونشرها بدعوى
إحياء التراث الإسلامي وما نشرت كتب الفلسفة وكتب أهل الاعتزال إلا تحت
مسمى حرية الفكر والعقل المزعومة.
أخيراً: إنه لا حياة للمسلمين ولا قوة
لهم ولا نصر إلا باتباعهم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأن يقتدوا بالصحابة رضي الله عنهم في موقفهم منهما تسليماً وانقياداً
واتباعاً وعلى المسلم أن يوقن أن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي
محمد صلى الله عليه وسلم وأن شر الأمور محدثاتها فهذا يدحر كل بدعة، يقول
ابن القيم: فإن السنة بالذات تمحق البدعة ولا تقوم لها وإذا طلعت شمسها في
قلب العبد قطعت من قلبه ضباب كل بدعة وأزالت ظلمة كل ضلالة إذ لا سلطان
للظلمة مع سلطان الشمس ولا يرى العبد الفرق بين السنة والبدعة ويعينه على
الخروج من ظلمتها إلى نور السنة إلا المتابعة والهجرة بقلبه كل وقت إلى
الله بالاستعانة والإخلاص وصدق اللجأ إلى الله والهجرة إلى رسوله بالحرص
على الوصول إلى أقواله وأعماله وهديه وسنته فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله
فهجرته إلى الله ورسوله ومن هاجر إلى غير ذلك فهو حظه ونصيبه في الدنيا
والآخرة والله المستعان
.