الحمد لله الذي جعل لهذه الأمة فُسحة، ورفع عنها الحرج والمشقة. وأُصلي
على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مُعلم هذه الأمة وعلى أصحابه ومن سار
على نهجه وسلم تسليماً، أما بعد:
لقد خلق الله سبحانه الإنسان لحكمة عظيمة وغاية جليلة ذكرها في كتابه الكريم:
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] فهو سبحانه لم يخلقهم عبثاً
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً [المؤمنون:115] ولم يتركهم سداً
أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36] بل خلقهم لعبادته وأرسل لهم رسله، وأنزل عليهم كتابه، وإن من حقق هذه العبادة نجا وفلح وسعد في الدنيا والأخرة.
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا [هود:108].
واعلم أخي الحبيب: أن العبادة ليست لها صورة واحدة، بل هي صور متعددة يتعبد الإنسان فيها ربه.
فالعبادة هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.
فالمسلم
يعبد الله بكل أمر شرعه الله وأحبه ورتب عليه سعادة المرء في الدنيا
والآخرة، وكما أن العبادة ليست صورة واحدة كذلك ليست مرتبطة بزمان أو مكان
أو بأشخاص
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران:144]، بل يعبد ربه في كل زمان ومكان، براً وبحراً وجواً، وصيفاً
وشتاءً، فهو يحقق في هذا المحراب العظيم محراب الحياة، العبودية لله
سبحانه وتعالى، ويسعى لتحقيق هذا الأصل العظيم في جميع شؤون حياته الخاصة
والعامة، وأفعاله صغيرها وكبيرهاً، ويرتقي كل عمل في حياة المسلم إلى تحقيق
هذا الأمر العظيم:
قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:163،162] وحتى ما يقضيه المسلم من وطره وشهوته يرتقي إلى ذلك، وكما صح عنه
:
{ وفي بضع أحدكم صدقة } وقال أنس رضي الله عنه: ( إن أحدنا ليحتسب نومته وقومته في سبيل الله )
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
البر وزيادة الإيمانإن الكون وما فيه آية من آيات الله الكونية تدل على عظمته وقدرته وعظم صنعته وعلمه
صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل: 88] قال تعالى:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ [آل عمران:190].
فوا عجباً كيف يعصى المليك *** أم كيف يجحده الجاحدونوفي كل شيء له آية *** تدل على أنه الخالقفمما يزيد الإيمان، ويقوي الإسلام، ويربط الإنسان بخالق الأكوان، هو التفكير والتدبر في مخلوقات الله.
وإن
رحلة (البر) على ما فيها من إدخال السرور للنفس وإنعاشها ونشاطها، إذا
جعلها الإنسان فرصة للتأمل وجد ثمرة هذا التفكر والتأمل - خصوصاً عندما
يخرج لذلك المكان الفسيح الذي يرى فيه عظمة هذا الكون صافياً من مؤثرات
الحياة المستجدة ( الضوء ـ الضوضاء ـ وغير ذلك ) ونظر وأطلق بصره لتلك
الآيات العظيمة، المعجزة في دلالتها، القوية في معانيها، المؤثرة في عظمة
من خلقها.
يقول أحد الأحباب: خرجت إلى رحلة البر وعندما أظلم الليل
وأسدل ستاره، استلقيت على ظهري لكي أنام، فإذا منظر مهيب، وموقف عظيم،
ارتعش له جسدي، واقشعر له بدني، وأنا أنظر ولأول مرة منذ فترة طويلة إلى
تلك السماء التي حرمت من النظر إلى صفائها وما فيها من المخلوقات العجبية،
فإذا نجوم عظيمة، وشهب تنطلق من هنا وهناك، فقلت: ما أعظم هذا الكون! وأعظم
منه مَن خلقه! فما زلت أنظر وأتأمل، وأتذكر قول الله سبحانه وتعالى:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ [آل عمران:190]، فشعرت بقلب ينبض بالإيمان، وجسد تسري فيه معاني القرآن، فخرجت من تلك الرحلة بثمرة عظيمة وهي: ( تجدد الإيمان ).
فاجعل - أخي الحبيب - من رحلتك هذه رحلة إلى الإيمان، ومعرفة آيات خالق الأكوان.
البر وأحكاملقد
جاء الشرع بأحكام ينبغي للمسلم أن يسير عليها في كل مكان ويجب مراعاتها
والحفاظ عليها، والسؤال عنها، وعدم التساهل فيها، ومن أعظم الأحكام: هي
المحافظة على الواجبات وترك المحرمات في تلك الأماكن التي قد يغفل الإنسان
ويتساهل فيها لبعده عن أعين الناس، ونسي أو تناسى أن الله سبحانه وتعالى
يعلم السر وأخفى، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأعظم هذه
الأحكام خطراً: هو ذلك الركن الركين وأصل الإسلام العظيم الذي لا يصح
إسلام المرء إلا بالقيام به، وهي: الصلاة... الصلاة... الصلاة... الصلاة...
الصلاة... الصلاة... الصلاة... الصلاة...
محافظةً عليها، وأداءها في وقتها، وعدم التساهل بها، وإليك أحكامها:
اعلم
- أخي الحبيب ويا صاحب (الرحلة) - أن في المحافظة على الصلاة أجراً عظيماً
في الإقامة والترحال، وأن في المحافظة على الصلاة في تلك الأماكن (الفلاة)
أجراً ذكره رسول الله
في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:
{
صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته وحدة خمساً وعشرين درجة، فإذا صلاها
بأرض فلاة فأتم وضوءها وركوعها وسجودها، بلغت صلاته خمسين درجة } [صحيح الجامع:3824].
معرفة دخول الوقت والحرص على الصلاة في وقتها، لما صح عنه
عندما سئل عن أفضل الأعمال قال:
{ الصلاة على وقتها } ويلحق بهذا الأذان وخصوصاً في أرض الفلاة لما في ذلك من فضل ذكره الرسول
من حديث عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي صعصعة:
{.. فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن، ولا إنس، ولا شيء، إلا شهد له يوم القيامة } [رواه أبو داود وغيره].
ولحديث عقبة بن عامر
قال: سمعت رسول الله
يقول:
{
يعجب ربك من راعي غنم في رأس شظية جبل يؤذن بالصلاة ويصلي، فيقول الله عز
وجل: انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني، قد غفرت لعبدي
وأدخلته الجنة } [رواه النسائي والبيهقي وغيرهما] ولما فيه من طرد للشيطان لحديث أبي هريرة عن النبي
أنه قال:
{ إن الشيطان إذا نودي للصلاة أدبر } [رواه مسلم].
التأكد
من القبلة والاجتهاد في ذلك، فإن اجتهد وصلّى وتحرى القبلة فصلاته صحيحة،
ولو اكتشف بعد الانتهاء من الصلاة أنه صلّى إلى غير القبلة فلا يعيد وصلاته
صحيحة.
الوضوء وهو شرط لصحة الصلاة، ويحرص المسلم على إكماله وإتمامه، فإن تعذر الماء أوخاف استعامله لمرض أو برد شديد تيمم.
وقد أجرى بعض العلماء على من خرج في رحلة أو متنزه أجرى عليها قياساً أحكام السفر من الرخص وغيرها.
فمن
ذلك: المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن. ومن ذلك: قصر الصلاة
وجمعها، فتقصر الرباعية ويستثنى من ذلك (الفجر والمغرب) وتجمع الصلاتان
الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، سواء ذلك تقديماً أو تأخيراً، على حسب
الحاجة والحال.
وتصلى الجمعة ظهراً، وإن وجد مكاناً قريباً من قرية أو غيرها فصلاها جمعة فحسن.
ومن
الأحكام المهمة في البر: هي معرفة أحكام الصيد وما يتعلق في ذلك من شروط
وضوابط شرعية لئلا يقع المسلم في محاذير شرعية محرمة في الصيد (ويكون ذلك
بحمل ر سالة لهذا الباب).
تنبيه وتحذير: وإن مما يتساهل به
مما يتعلق باستعمال السلاح بدون ضوابط ومراعاة للمكان، واستعمال عشوائي مما
يسبب خطراً عظيماً في الأنفس، وخصوصاً إذا استعمل من قبل صغار السن
والأطفال، فلينتبه لهذا.
آداب الخروج إلى البرإن
من خصائص هذا الدين وعظمته وشموله أنه جاء بآداب عظيمة وأخلاق فاضلة ينضبط
بها المسلم في كل زمان ومكان في بره وبحره وجوه، وهذه الآداب هي ثمرة
الإيمان الصادق والإسلام الكامل والاستقامة على دين الله، فالدين مبني على
عقيدة سليمة، وعبادة صحيحة، وآداب جليلة، وإليك - أخي الحبيب صاحب (الرحلة)
- آداباً ينبغي الالتزام بها، وهي آداب تتعلق بالمكان، فمن ذلك:
عدم التخلي وتقذير الأماكن التي يرتادها الناس من ظل أو شجر أو غيره، لحديث أبي هريرة
أن الرسول
قال:
{ اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل } [رواه أبو داود].
ويقاس على ذلك ما يفلعه بعض النساء من رمي (حفائظ الأطفال) بما فيها من نفايات تؤذي وتقذر المكان.
ويلحق في هذا محل الاجتماع في الشمس في الشتاء لوجود العلّة وهي الإيذاء والقذر.
ومن تلك الآداب آداب قضاء الحاجة، ومنها:
- استحباب بعد المكان عن الناس إذا كان في الفضاء (الفلاة)، (البر) لحديث المغيرة بن شعبة
قال: كنت مع النبي
في سفر فقال:
{ يا مغيرة خذ الإداوة فأخذتها فانطلق رسول الله حتى توارى عني فقضى حاجته } [رواه مسلم].
ولحديث عبدالرحمن بن أبي قداح:
{... وكان إذا أتى حاجته أبعد } [إسناده صحيح].
- استحباب استتار البدن حال قضاء الحاجة لحديث عبدالله ابن جعفر:
{... وكان أحب ما استتر الرسول به: هدف، أو حائش نخل } [رواه مسلم].
- وجوب ستر العورة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي
:
{ كان إذا أراد حاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض } [رواه أبو داود] وللحديث السابق.
- ومن ذلك النهي عن استقبال القبلة ببول أو غائط لحديث أبي أيوب الأنصاري أن النبي
قال:
{ إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة أو تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا.. } [رواه مسلم].
- النهي عن البول في الطريق والظل النافع وتحت الشجرة المثمرة لما سبق من حديث أبي هريرة.
- النهي عن البول في الشق أو الجحر أو غيره لحديث عبدالله ابن سرجس أن النبي
قال:
{ لا يبولن أحدكم في الجحر } لما فيها من الهوام والسباع، وقيل: إنها مساكن الجن.
- طلب المكان الرخو عند قضاء الحاجة قال النووي: ( وهذا الأدب متفق على استحبابه حتى يأمن التلوث من البول وحتى لا يرتد رشاش بوله ).
- كراهية استقبال الريح، وفي هذا تعليل وهو أنه قد يتلوث بالنجاسة بأن يرتد عليه بوله.
ومن
تلك الآداب: الآداب العامة التي ينبغي مراعاتها من عدم إيذاء الناس،
ومزاحمتهم، وخصوصاً ما يقع من بعض الشباب هداهم الله من إيذاء الناس في
حلهم وترحالهم، فقد قال الله سبحانه وتعالى:
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا
اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً [الأحزاب:58] وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن رجلاً سأل الرسول
: أي المسلمين خير؟ قال:
{ من سلم المسلمون من لسانه ويده } [أخرجه مسلم].
ولحديث
{ من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم } [صحيح الجامع].
ومن
تلك الآداب التي تتعلق بالمرأة المسلمة من احتشام وحفظ لحيائها ومراقبة
ربها، وعدم سفورها، وتبرجها في حضرة الرجال وغير محارمها، فالحجاب لايرتبط
بمكان أو زمان بل أمر من الله سبحانه وتعالى لأمته:
يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59]
وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31] أي: ما يظهر في عادة النساء لدى محارمها وما يظهر منها لغير محارمها من غير تعمد أو قصد.
فهذه آداب - أخي الحبيب وصاحب (الرحلة) - احرص على الالتزام بها وفقك الله لما يحب ويرضى.