الوثنية التي سادت عالمنا

الوثنية التي سادت عالمنا

إن تاريخ الحياة مؤسف . منذ هبط آدم وبنوه الأرض , ثم بعد أن شبِّ بهم الزمن واطِّرد العمران وتشعبت الحضارات وأدبرت أجيال وأقبلت علي أنقاضها أخري, منذ ذلك الحين السحيق والناس أخلاط متنافرون, لاتستقيم بهم السبل يوماً إلاّ شردت أياماً , ولا يشيمون بوارق الحق إلا أطبقت عليهم ظلمات الباطل أحياناً . ولو تقصينا تاريخ البشر من ناحية الإيمان بالله فنجده بمخمور تزيد فترات سكره علي فترات صحوه , أو بمحموم غاب عنه رشده , فهو يهذي ولا يدري . وقد كان في تجارب الناس مع أنفسهم ودنياهـم مزدجر يزع الشر ويرد إلي الخير, بيد أن الهوى الغالب لا تجدي معه معرفة .
كم سلخت الدنيا من عمرها قبل أن يظهر محمد صلي الله عليه وسلم ؟ لقد مرت عليـها قرون طـوال
أفادت فيها علماً كثيراً, ووعت تجارب ونمت آداب وفنون وشاعت فلسفات وأفكار . ومع ذلك فقد غـــلب الطيش واستحكم , وسقطت أمم شتي دون المكانة المنشودة لها . فماذا كان مصير الحضـــارات في مصر
واليونان والهند والصين وفارس وروما من ناحية العاطفة والعقل ؟ إن الوثنية الوضعية اغتالتها , فرضــت
عليها السقوط في هذه الوهدة الزرية . فأمسي الإنسان الذي استخلفه الله ليكون ملكا في السمـوات والأرض , أمسي عبداً مسخراً لأدني شيء في السموات والأرض . وماذا بعد أن تقدس العجول والأبقار و تطــبق هذا
علي شعوب بأسرها علي هذه الخرافة ؟ إن الوثنية هَوانٌ يأتي من داخل النفس لا من خارج الحياة فكـــما يفرض المهموم كآبته علي من حوله , كذلك يفرض الممسوخ صغارنفسه وغباء عقله علي البيئة التي يحيا بها
فيؤلّه من جمادها وحيوانها ما يشاء , ومن ثم كان العمل للدين داخل الإنسان نفسه , فلو ذبــحت العـجول المقدسة ونكست الأوثان المرموقة وبقيت النفس علي ظلامها القديم ما أجدي ذلك شيئا في الحرب علي الوثنية
فيبحث العباد المفجوعون عن آلهة أخري غير مافقدوا , يوفضون إليها من جديد , وما أكثر الوثنيين في الدنيا
وما أسرع الناس إلي تجاهل الوجود الحق وربه الأعلى والجري وراء وهم جديد …!!!
والخرافة لا تأخذ مجراها في الحياة وهي تعلن عن باطلها أو تكشف عن هرائها . كلآ , إنها تــداري مجونها بثوب الجد وتستعير من الحق لبوسه المقبول ثم تتزين بعد ذلك للمـخدوعين . وكذلك فعلت الوثنية ! ولقد أغارت علي الدين الصحيح وحقائقه الناصعة لا كما يغير النحل علي أزهارالربيع . بل كما تغير الديدان وأسراب الجراد علي الحدائق الغناء فتحيلها قاعًًاً صفصفا . وهي إذا أفسدت أوكست وحولت الخير قـبل أن تتصل به إلي شر بعد ماتحول في جوفها إلي سموم . جزئ من الحق في أجزاء من الباطل في سياق يصرف الناس آخر الأمر من الله ويبعدهم عن ساحته .
وأعظم نكبة أصابت الأديان إثر عدوان الوثنيات عليها , ما أصاب شريعة عيسي بن مريم عليه السلام
من تبدل مرْوِع, ردّ نهارها ليلاً وسلامها وَيْلاً . وجعـل الوحدة شركة , وانتكـس بالإنسان , فعـلق همته بالقرابين , وفكره بالألغاز المعماة .
إن خرافة الثالوث والفداء تجددت حياتـها بعد ما أفلحت الوثـنية الأولي في إقحامـها إقحاما علي النصرانية
الجديدة , وبذلك انتصرت الوثنية مرتين , الأولي في تدعيم نفسها , والأخرى في تضليل غيرها . فلما جـاء
القرن السادس لميلاد المسيح عيسي عليه السـلام , كانت منارات الهدي قد انطفــأت في مشارق الأرض ومغاربها , وكان الشيطان يزرع الأقطار الفيح فيري ما غرس من الأشواك قد نما وإمتد . فالمجوســية في
فارس طليعة عنيدة للشرك في الهند والصين وبلاد العرب وسائر المجاهل . والنصــرانية التي تناوئ هذه الجبهة قبست أبرز مآثرها من خرافات الهنود والمصريين القدامـي , فهي تجعل لله صاحبة وولداً , وتغري
أتباعها في روما ومصر والقسطنطينية بلون من الإشراك أرقي مما ألف عباد النيران وعباد الأوثان ,شـرك
مشوب بتوحيد يحارب شركاً محضاً . ولكن ما قيمة هذه النقائص التي جمعت النصرانية بين شتاتها ؟ وصدق الله حين قال :
{قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَـذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (70)} ـ يونس ـ . ويظهر أن آصرة الشرك بين المجوسية و الديانات السماوية المشوهة هي التي جعلت هذه الأحزاب إلباً علي المسلمين يوم بدءوا يقــيمون
جماعتهم علي عبادة الواحد الحق وقد نبّأ الله هذه الأمة بأن الأذي سوف ينصب عليها من عبدة الأصنام , ومن أهل الكتاب في آن واحد , ووصاها أن تتزرع بالصبر أمام هذا التحامل.وصدق الله حين قال : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186)} ـ الأنعام ـ .
فأي خير يُرجي في أحضان شرك نسي وحدانية الله وآمن بالثالوث؟ وران علي أفئدته الظلام في غيبة أنوار ا لتوحيد فأصبحت الأرض مذأبة يسودها الفتك والاغتيال ويفقد فيها الضعاف نعمة الأمان والسكينة .
ولا غرابة حين إذٍ في أن يرفع الله عنها يده كما جاء في الحديث النبوي :
1 – {إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عجميهم وعربيهم إلا بطياء من أهل الكتاب وقال إني إنما بعثتك أبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما ويقظانا.}
الراوي: عياض بن حمار المجاشعي المحدث: ابن عساكر - المصدر: تاريخ دمشق – لصــفحة أو الرقم: 54/185
خلاصة حكم المحدث: كذا قال والصواب إلا بقايا من أهل كتاب .
2 - إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب
الراوي: عياض بن حمار المحدث: ابن تيمية - المصدر: مجموع الفتاوى - لصفحة أو الرقم: 18/292
خلاصة حكم المحدث: صحيح . وهذه البقايا هي التي ظلت مستعصية علي الشرك برغم طوفان الكفـــر
الذي عم البقاع والقلاع . لقد شملت الدنيا قبل بعثة محمد صلي الله عليه وسلم حيرة وبؤس .
أتيت والناس فوضي لا تمر بهم إلاًعلي صنم قد هـام في صــنم
فعاهل الـروم يطغي في رعيته وعاهل الفرس من كبر أصم عمي
حتى تأذن الله ليحسمن هذه الآثار , وليسوقن هدايته الكبرى إلي الأنام , فأرسل الي الأمة محمداً عليه الصلاة والسلام , والذي تمتاز بعثته بالعموم والدوام , وبعثة محمد صلي الله عليه وسلم كانت عوضاً كاملا عن ارسال جيش من النبيين يتوزع علي الأعصار والأمصار, بل انها سدت مسد ارسال ملك كريم الي كل إنسان تدب علي الأرض قدماه , ما بقيت علي الأرض حياة , وما تطلعت عين الهدي والنجاة .
لم يكن محمداً إماما لقبيل من الناس صلحوا بصلاحه فلما انتهي ذهبوا معه في خبر كان , بل كان قوة من قوي الخير , لها في عالم المعاني ما لإكتشاف البخار والكهرباء في عالم المادة ., بل بعثته تمثل مرحلة من مراحل التطور في الوجود الإنساني , جاء للإنسان ليشرح له كيف يعيش في الأرض ؟ , وكيف يعود الي السماء فاذا بقي محمد أو ذهب فلن ينقص ذلك من جوهر رسالته , انه لم يبعث ليجمع حول اسمه أناساً قلّوا أو كثروا إنما بعث صلة بين الخلق و الحق الذي يصح به وجودهم و النور الذي يبصرون به غايتهم وصدق الله حين قال : .{{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً (175)}} ـ النساء ـ
فأنَّي للأرواح المريضة والعقول الكليلة أن تتصل بمن جاء ليودع في الأرواح و العقول عافيـة الدين و الدنيا
فياأمة التوحيد إنهضي من عسرتك وتوحدي تحت راية الإسلام وانشروا اسلامـــك في ربوع الأرض واقضي علي خرافة الثالوث و الفداء و الوثنـية التي غطت أكثر أهل الأرض فأفسدت بهم البر و البــحر والإنسان , وارفعي خيوط العنكبوت التي غطت جسدك , وكفنته , واسلكي سُبل ربك .
ــــــــــــــــــــــ
من فقه السيرة لفضيلة الشيخ /محمد الغزالي (رحمه الله) بتصرف ...