وأما
رسالته إلى العرب فلم يصرحوا بتصديقه فيها ولا بتكذيبه وإن كان ظاهر لفظهم
يقتضي الإقرار برسالته إلى العرب بل صدقوا بما وافق قولهم وكذبوا بما خالق
قولهم
ونحن نبين أنه لا يصح احتجاجهم بشيء مما جاء به النبي
صلى الله عليه وسلم ثم نتكلم على الوجهين جميعا ونبين أنه لا يصح احتجاجهم بشيء من القرآن على صحة دينهم بوجه من
الوجوه ونبين أن
القرآن لا حجة فيه لهم ولا فيه تناقض
وكذلك كتب الأنبياء المتقدمين التي يحتجون بها هي حجة عليهم ليس في شيء منها حجة لهم ولو لم يبعث محمد
صلى الله عليه وسلم فكيف والكتاب الذي جاء به محمد
صلى الله عليه وسلمموافق لسائر كلام الأنبياء عليهم السلام في إبطال دينهم وقولهم في التثليث والاتحاد وغير ذلك مع العقل الصريح
فهم احتجوا في كتابهم هذا بالقرآن وبما جاءت به الأنبياء قبل محمد
صلى الله عليه وسلممع العقل
ونحن نبين أنه لا حجة لهم فيما جاء به محمد
صلى الله عليه وسلم ولا فيما جاءت به الانبياء قبله ولا في العقل بل ما جاء به محمد وما جاءت
به الأنبياء قبله مع صريح العقل كلها براهين قطعية على فساد دينهم ولكن
نذكر قبل ذلك أن احتجاجهم بما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم لا يصح
بوجه من الوجوه وأنه لا يجوز أن يحتج بمجرد المنقول عن محمد
صلى الله عليه وسلممن يكذبه في كلمة واحدة مما جاء به
وكذلك
سائر الأنبياء عليهم السلام بخلاف الاحتجاج بكلام غير الأنبياء فإن ذلك
يمكن موافقة بعضه دون بعض وأما ما أخبرت به الأنبياء عليهم السلام أو من
قال إنه نبي
فلا يمكن الاحتجاج ببعضه دون بعض سواء قدر صدقهم أو كذبهم
فيقال لهم على كل تقدير سواء أقروا
بنبوته إلى العرب أو غيرهم أو كذبوه في قوله إنه
رسول الله أو سكتوا عن هذا وهذا أو صدقوه في البعض دون البعض
إن احتجاجكم على صحة ما تخالفون فيه المسلمين مما جاء به محمد
صلى الله عليه وسلم لا يصح بوجه من الوجوه فاحتجاجكم على أنه لم يرسل إليكم أو على صحة دينكم بشيء من القرآن حجة داحضة على كل تقدير
مع أنا سنبين إن شاء الله تعالى أن الكتب الإلهية كلها مع المعقول لا حجة لكم في شيء منها بل كلها حجة عليكم
وهذا بخلاف المسلمين فإنه يصح احتجاجهم على أهل الكتاب
اليهود والنصارى بما جاءت به الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه و سلم وأهل الكتاب لا يصح
احتجاجهم بما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم وذلك أن المسلمين مقرون
بنبوة موسى وعيسى وداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام وعندهم
يجب
الإيمان بكل
كتاب أنزله الله وبكل نبي أرسله الله وهذا أصل دين المسلمين فمن كفر بنبي
واحد أو كتاب واحد فهو عندهم كافر بل من سب نبيا من الأنبياء فهو عندهم
كافر
مباح الدم كما قال تعالى
سورة البقرة الآيتان 136 137
وقال تعالى سورة البقرة الآية 285
وقال تعالى سورة البقرة الآية 177
والكتاب اسم جنس لكل كتاب أنزله الله يتناول التوراة والإنجيل كما يتناول القرآن كقوله تعالى
سورة الشورى الآية 15
وقوله تعالى سورة البقرة الآية 285
وفي القراءة الأخرى وكتابه كقوله تعالى سورة الشورى الآية 15
وقوله تعالى سورة البقرة الآيات 1 5
فذكر
أن هذا الكتاب الذي أنزل عليه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون
الصلاة ويؤتون الزكاة والذين يؤمنون بما أنزل إليه وما أنزل من قبله
وبالآخرة هم يوقنون ثم أخبر أن هؤلاء هم المفلحون فحصر الفلاح في هؤلاء فلا
يكون مفلحا إلا من كان من هؤلاء
وقوله تعالى والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك
هو
صفة للمذكورين ليس هؤلاء صنفا آخر فإن عطف الشيء على الشيء قد يكون لتغاير
الصفات وإن كانت الذات واحدة هذا هو الصحيح هنا وإن كان قد قيل إن الصنف
الثاني مؤمنوا
أهل الكتابوالأول هم المسلمون فهذا ضعيف وأفسد منه قول هؤلاء
النصارى إن الكتاب المراد به الإنجيل كما سيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى
والعطف لتغاير الصفات كقوله تعالى سورة الأعلى الآيات 1 5
وهو سبحانه الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى
وقوله تعالى سورة المؤمنون الآية 1 5
إلى آخر الآيات
وكذلك قوله سورة البقرة الآية 4
هم الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون وهم الذين على هدى من ربهم وهم المفلحون
ولكن فصل إيمانهم بعد أن أجمله لئلا يظن ظان أن مجرد دعوى الإيمان بالغيب ينفع وإن لم يؤمن بما أنزل إلى
صلى الله عليه وسلم وما أنزل إلى من قبله فلو قال أحد من الناس أنا أؤمن بالغيب وهو مع ذلك لا
يؤمن ببعض ما أنزل على محمد صلى الله عليه و سلم أو ببعض ما أنزل على من
قبله لم يكن مؤمنا حتى يؤمن بجميع ما أنزل إليه وما أنزل إلى من قبله ولو
كانوا صنفا آخر لكان المفلحون قسمين قسما يؤمنون بالغيب ولا يؤمنون بما
أنزل إليه وما أنزل إلى من قبله وقسما يؤمنون بما أنزل إليه وما أنزل إلى
من قبله ولا يؤمنون بالغيب وهذا باطل عند جميع الأمم المؤمنين واليهود
والنصارى فإن الإيمان بما أنزل إليه وإلى من قبله يتضمن الإيمان بالغيب
والإيمان بالغيب لا يتم إلا بالإيمان بجميع ما أنزله الله تبارك وتعالى
والمسلمون
لا يستجيز أحد منهم التكذيب بشيء مما أنزل على من قبل محمد صلى الله عليه و
سلم لكن الاحتجاج بذلك عليهم يحتاج إلى ثلاث مقدمات
إحداها ثبوت ذلك على الأنبياء عليهم السلام
والثانية صحة الترجمة إلى اللسان العربي أو اللسان الذي
يخاطب
فيه كالرومي والسرياني فإن لسان موسى وداود والمسيح وغيرهم من أنبياء بني
إسرائيل كانت عبرانية ومن قال إن لسان المسيح كان سريانيا أو روميا فقد غلط
والثالثة تفسير ذلك الكلام ومعرفة معناه
فلهذا
كان المسلمون لا يردون شيئا من الحجج بتكذيب أحد من الأنبياء في شيء قاله
ولكن قد يكذبون الناقل عنهم أو يفسرون المنقول عنهم بما أرادوه أو بمعنى
آخر على وجه الغلط
وإن كان بعض المسلمين قد يغلط في تكذيب بعض النقل أو
تأويل بعض المنقول عنهم فهو كما يغلط من يغلط منهم ومن سائر أهل الملل في
التكذيب على وجه الغلط ببعض ما ينقل عمن يقر بنبوته أو في تأويل المنقول
عنه
وهذا بخلاف تكذيب نفس النبي فإنه كفر صريح بخلاف أهل الكتاب فإنه
لا يتم مرادهم إلا بتكذيبهم ببعض ما أنزل الله ومتى كذب بكلمة واحدة مما
أخبر به من قال إنه رسول الله بطل احتجاجه بسائر كلامه فكانت حجتهم التي
يحتجون بها داحضة وذلك أن الذي يقول إنه رسول الله إما أن يكون صادقا في
قوله إني رسول الله وفي جميع ما يخبر به عن الله وإما أن يكون كاذبا ولو في
كلمة واحدة عن الله
فإن كان صادقا في ذلك امتنع أن يكذب على الله في شيء مما يبلغه عن الله فإن من كذب على الله ولو في كلمة واحدة كان ممن
افترى على الله الكذب ولم يكن رسولا من رسل الله ومن افترى على الله الكذب تبين أنه من المتنبئين الكذابين
ومثل
هذا لا يجوز أن يحتج بخبره عن الله فإنه قد علم أن الله لم يرسله وإذا قال
هو قولا وكان صدقا كان كما يقوله غيره يقبل لا لأنه بلغه عن الله ولا لأنه
رسول عن الله بل كما يقبل من المشركين وسائر الكفار ما يقولونه من الحق
فإن عباد الأوثان إذا قالوا عن الله ما هو حق مثل إقرار مشركي العرب بأن
الله خلق السموات والارض لم نكذبهم في ذلك وإن كانوا كفارا وكذلك إذا قال
الكافر إن الله حي قادر خالق لم نكذبه في هذا القول
فمن كذب على الله
في كلمة واحدة قال إن الله أنزلها عليه ولم يكن الله أنزلها عليه فهو من
الكذابين الذين لا يجوز أن يحتج بشيء من أقوالهم التي يقولون إنهم يبلغونها
عن الله تبارك وتعالى وما قالوه غير ذلك فهم فيه كسائر الناس بل كأمثالهم
من الكذابين إن عرف صحة ذلك القول من جهة غيرهم قبل لقيام الدليل على صحته
لا لكونهم قالوه وإن لم يعرف صحته من جهة غيرهم لم يكن في قولهم له مع ثبوت
كذبهم على الله حجة
وحينئذ فهؤلاء إن اقروا برسالة محمد صلى الله عليه
و سلم وأنه صادق فيما بلغه عن الله من الكتاب والحكمة وجب عليهم الإيمان
بكل ما ثبت عنه من الكتاب والحكمة كما يجب الإيمان بكل ما جاءت به الرسل
وإن كذبوه في كلمة واحدة أو شكوا في صدقه فيها امتنع مع
ذلك
أن يقروا بأنه رسول الله وإذا لم يقروا بأنه رسول الله كان احتجاجهم بما
قاله كاحتجاجهم بسائر ما يقوله من ليس من الأنبياء بل من الكذابين أو من
المشكوك في صدقهم
ومعلوم أن من عرف كذبه على الله فيما يقول إنه يبلغه
عن الله أو شك في صدقه لا يعلم أنه رسول الله ولا أنه صادق في كل ما يقوله
ويبلغه عن الله وإذا لم يعلم ذلك منه لم يعرف أن الله أنزل إليه شيئا بل
إذا عرف كذبه عرف أن الله لم ينزل إليه شيئا ولا أرسله كما عرف كذب مسيلمة
الكذاب والأسود العنسي وطليحة الأسدي وكما عرف كذب ماني وأمثاله
وغيرهم من المتنبئين الكذابين
وإذا
شك في صدقه في كلمة واحدة بل جوز أن يكون كذبها عمدا أو خطأ لم يجز تصديقه
مع ذلك في سائر ما يبلغه عن الله لأن تصديقه فيما يخبر به عن الله إنما
يكون إذا كان رسولا صادقا لا يكذب عمدا ولا خطأ فإن كل من أرسله الله لا بد
أن يكون صادقا في كل ما يبلغه عن الله لا يكذب فيه عمدا ولا خطأ
وهذا
أمر اتفق عليه الناس كلهم المسلمون اليهود والنصارى وغيرهم اتفقوا على أن
الرسول لا بد أن يكون صادقا معصوما فيما يبلغه عن الله لا يكذب على الله
خطأ ولا عمدا فإن مقصود الرسالة لا يحصل بدون ذلك كما قال موسى عليهم
السلام لفرعون سورة الأعراف الآيتان 104 105
وفي القراءة المشهورة يخبر
أنه جدير وحري وثابت ومستقر على أن لا يقول على الله إلا الحق وعلى
القراءة الأخرى أخبر أنه واجب عليه أن لا يقول على الله إلا الحق
وقال تعالى سورة الحاقة الآيات 44 47
وقال تعالى سورة الشورى الآية 24
وقال تعالى سورة النحل الآيتان 101 102
وقال تعالى سورة يونس الآية 15
وهذا لبسطه موضع آخر
وإنما المقصود هنا أن احتجاجهم بكلمة واحدة مما جاء ب
محمد
صلى الله عليه و سلم لا يصح بوجه من الوجوه فإنه إن كان رسولا صادقا في كل
ما يخبر به عن الله عز و جل فقد علم كل واحد أنه جاء بما يخالف دين
النصارى فيلزم إذا كان رسولا صادقا أن يكون دين النصارى باطلا وإن قالوا في
كلمة واحدة مما جاء به أنها باطلة لزم أن لا يكون عندهم رسولا صادقا مبلغا
عن الله وحينئذ فسواء قالوا هو ملك عادل أو هو عالم من العلماء أو هو رجل
صالح من الصالحين أو جعلوه قديسا عظيما من أعظم القديسين فمهما عظموه به
ومدحوه به لما رأوه من محاسنه الباهرة وفضائله الظاهرة وشريعته الطاهرة متى
كذبوه في كلمة واحدة مما جاء به أو شكوا فيها كانوا مكذبين له في قوله إنه
رسول الله وأنه بلغ هذا القرآن عن الله ومن كان كاذبا في قوله إنه رسول
الله لم يكن من الأنبياء والمرسلين ومن لم يكن منهم لم يكن قوله حجة البتة
لكن له أسوة أمثاله
فإن عرف صحة ما يقوله بدليل منفصل قبل القول لأنه عرف صدقه من غير جهته لا لأنه قاله وإن لم يعرف صحة القول لم يقبل
فتبين
أنه إن لم يقر المقر لمن ذكر أنه رسول الله بأنه صادق في كل ما يبلغه عن
الله معصوم عن استقرار الكذب خطأ أو عمدا لم يصح احتجاجهم بقوله
وهذا الأصل يبطل قول عقلاء أهل الكتاب وهو لقول جهالهم أعظم إبطالا فإن كثيرا من عقلاء أهل الكتاب وأكثرهم يعظمون محمدا
صلى الله عليه وسلم لما دعا إليه من توحيد الله تعالى ولما نهى عنه من عبادة الأوثان ولما صدق
التوارة والإنجيل والمرسلين قبله ولما ظهر من عظمة القرآن الذي جاء به
ومحاسن الشريعة التي جاء بها وفضائل أمته التي آمنت به ولما ظهر عنه وعنهم
من الآيات البراهين والمعجزات والكرامات لكن يقولون مع ذلك إنه بعث غيرنا
وإنه ملك عادل له سياسة عادلة وإنه مع ذلك حصل علوما من علوم أهل الكتاب
وغيرهم ووضع لهم ناموسا بعلمه ورتبه كما وضع أكابرهم لهم القوانين
والنواميس التي بأيديهم
ومهما قالوه من هذا فإنهم لا يصيرون به مؤمنين
به ولا يسوغ لهم بمجرد ذلك الاحتجاج بشيء مما قاله لأنه قد عرف بالنقل
المتواتر الذي يعلمه جميع الأمم من جميع الطوائف أنه قال إنه رسول الله إلى
جميع الناس وأن الله أنزل عليه القرآن فإن كان صادقا في ذلك فمن كذبه في
كلمة واحدة فقد كذب رسول الله ومن كذب رسول الله فهو كافر وإن لم يكن صادقا
في ذلك لم يكن رسولا لله بل كان كاذبا ومن كان كاذبا على الله يقول الله
أرسلني بذلك ولم يرسله به لا يجوز أن يحتج بشيء من أقواله
وأما من كان
من جهلاء أهل الكتاب الذين يقولون أنه كان ملكا مسلطا عليهم وأنه رسول غضب
أرسله الله إرسالا كونيا لينتقم به منهم كما أرسل بختنصر وسنحاريب على بني
إسرائيل وكما أرسل جنكس خان وغيره من الملوك الكافرين والظالمين مما
ينتقم
به ممن عصاه فهؤلاء أعظم تكذيبا له وكفرا به من أولئك فإن هؤلاء الملوك لم
يقل أحد منهم إن الله أنزل عليه كتابا ولا أن هذا الكلام الذي ابلغه إليكم
هو كلام الله ولا أن الله أمركم أن تصدقوني فيما أخبرتكم به وتطيعوني فيما
أمرتكم به ومن لم يصدقني باطنا وظاهرا فإن الله يعذبه في الدنيا والآخرة
بل هؤلاء أرسلهم إرسالا كونيا قدره وقضاه كما يرسل الريح بالعذاب وكما يرسل
الشياطين قال تعالى سورة مريم الآية 83
وقال تعالى سورة الإسراء الآيتان 4 5
وهذا بخلاف قوله سورة نوح الآية 1
وقوله تعالى سورة المزمل الآية 15
وقوله تعالى سورة النساء الآيات 163 165
فإن
هذا يعني به الإرسال الديني الذي يحبه تعالى ويرضاه الذي هدى به من اتبعهم
وأدخله في رحمته وعاقب من عصاهم وجعله من المستوجبين للعذاب وهو الإرسال
الذي أوجب الله به طاعة من أرسله كما قال تعالى سورة النساء الآية 64
وقال تعالى سورة النساء الآية 80
وهذه الرسالة التي أقام بها الحجة على الخلق كما قال تعالى سورة النساء الآية 165
وقال تعالى سورة الحج الآية 75
وهذا كما اصطفى روح القدس جبريل عليه السلام لنزوله بالقرآن على من اصطفاه من البشر وهو محمد صلى الله عليه و سلم
قال تعالى سورة البقرة الآية 97
وقال تعالى سورة الشعراء الآيات 192 195
وقال تعالى سورة النحل الآيتان 101 102
فأخبر انه نزل به جبريل وسماه الروح الأمين وسماه روح القدس وقد ذكره أيضا في قوله سورة التكوير الآيات 19 21
ثم قال
سورة التكوير الآيات 22 29
فهذا الرسول جبريل عليه السلام وقال تعالى سورة الحاقة الآيات 40 47
فهذا الرسول محمد صلى الله عليه و سلم
وأما الإرسال الكوني الذي قدره وقضاه مثل إرسال الرياح وإرسال الشياطين فذلك نوع آخر قال تعالى سورة مريم الآية 83
وقال تعالى سورة الأعراف الآية 57
والله
تعالى له الخلق والأمر فلفظ الإرسال والبعث والإرادة والأمر والأذن
والكتاب والتحريم والقضاء والكلام ينقسم إلى خلقي وأمري وكوني وديني وقد
ذكرنا الإرسال
وأما البعث فقال تعالى سورة الجمعة الآية 2
وقال في الكوني سورة الإسراء الآة 5
وقال تعالى سورة المائدة الآية 31
وأما الإرادة فقال تعالى في الكونية سورة الأنعام الآية 135
وقال نوح عليه السلام سورة هود الآية 34
وقال تعالى في الإرادة الدينية سورة البقرة الآية 185
وقال تعالى سورة النساء الآيات 26 28
وقال تعالى سورة المائدة الآية 6
وقال تعالى سورة الأحزاب الآية 33
وقال تعالى في الأمر الكوني سورة يس الآية 82
وكذلك في أظهر القولين قوله تعالى سورة الإسراء الآية 16
وأما الأمر الديني مثل قوله سورة النساء الآية 58
وأما الإذن الكوني مثل قوله في السحرة سورة البقرة الآية 102
والديني مثل قوله سورة الأحزاب الآيتان 45 46
والكتاب الكوني مثل قوله سورة المجادلة الآية 21
وقوله سورة التوبة الآية 51
والديني مثل قوله سورة النساء الآية 24
وقوله سورة البقرة الآية 183
وقوله سورة البقرة الآية 178
والقضاءالكوني كقوله سورة فصلت الآية 12
والديني سورة الإسراء الآية 23
أي أمر
والتحريم الكوني مثل قوله سورة القصص الآية 12
وقوله سورة المائدة الآية 26
وقوله سورة الأنبياء الآية 95
والديني مثل قوله سورة المائدة الآية 3
وقوله سورة النساء الآية 23
والكلمات الكونية مثل قول النبي صلى الله عليه و سلم أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ومنه
قوله تعالى سورة التحريم الآية 12
والدينية
مثل قول النبي صلى الله عليه و سلم اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن
بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ومنه قوله تعالى سورة آل عمران
الآية 64
وهذا مبسوط في موضع آخر
والمقصود هنا أنه تفرق أهل الكتاب في النبي
صلى الله عليه وسلم كل يقول فيه قولا هو نظير تفرق سائر الكفار فإن الكفار بالأنبياء من
عاداتهم أن تقول كل طائفة فيه قولا يناقض قول الطائفة الآخرى وكذلك قولهم
في الكتاب الذي أنزل عليه وأقوالهم كلها أقوال مختلفة باطلة وهذا هو
الاختلاف المذموم الذي ذكره الله تعالى في قوله سورة هود الآيتان 118 119
وفي قوله سورة الذاريات الآيتان 7 8
وقوله تعالى سورة البقرة الآية 176
وقوله سورة آل عمران الآيتان 105 106
وقوله تعالى سورة المائدة الآية 14
ومثال أقوال الكفار في الأنبياء ما ذكره تعالى في قوله تعالى سورة الفرقان الآيات 1 9
فبين
سبحانه أن الكفار ضربوا له أمثالا كلها باطلة ضلوا فيها عن الحق فلا
يستطيعون مع الضلال سبيلا إلى الحق وضرب الأمثال له يتضمن تمثيله بأناس
آخرين وجعله في تلك الأنواع التي ليس هو منها ولا مماثلا لأفرادها مثل
قولهم سورة الفرقان الآية 4
مثلوه بالكاذب المستعين بمن يعينه على ما يفتريه ومثلوه بمن
يستكتب
أساطير الأولين من غيره فتقرأ عليه طرفي النهار وهو يتعلم من أولئك ما
يقوله ومثلوه بالمسحور وكذلك قوله تعالى سورة الإسراء الآيات 45 48
وقال تعالى سورة الحجر الآيات 87 96
قال كثير من السلف الذين جعلوا القرآن عضين هم الذين
عضهوه فقالوا سحر وشعر وكهانة ونحو ذلك كما قال تعالى سورة الحاقة الآيات 38 52
وقال سورة الطور الآيات 29 34
وقال تعالى سورة الشعراء الآيات 192 209
ثم قال تعالى سورة الشعراء الآيات 210 227
وقال تعالى
سورة العنكبوت الآيات 46 55
وقال تعالى سورة الطور الآيتان 33 34
وقال تعالى سورة هود الآيتان 13 14
وقال تعالى سورة البقرة الآيتان 23 24
وقال تعالى سورة الذاريات الآيات 49 51
وقد أخبر تعالى أن هذه سنة الكفار في الأنبياء قبله كما قال سورة الذاريات الآيتان 52 53
وقال تعالى سورة فصلت الآية 43
وقال تعالى سورة الأنعام الآية 112
وقد أخبر سبحانه أن الكفار قالوا عن موسى عليه السلام أنه ساحر وأنه مجنون فقال فرعون سورة الشعراء الآية 27
وقوله سورة الزخرف الآية 49
وقال
سورة طه الآية 71
وكذلك قالوا عن المسيح بن مريم كما قال تعالى سورة الصف الآية 6
وذكر تعالى عن اليهود أنهم قالوا على مريم بهتانا عظيما فقول اليهود في
المسيح من جنس أقوال الكفار في الأنبياء وكذلك قول كفار أهل الكتاب في خاتم الأنبياء محمد
صلى الله عليه وسلمتسليما
فإذا علم هذا فنقول بعد ذلك لمن قال أنه رسول أرسل إلى العرب الجاهلية دون أهل الكتاب
إنه
من المعلوم بالضرورة لكل من علم أحواله بالنقل المتواتر الذي هو أعظم
تواترا مما ينقل عن موسى وعيسى وغيرهما وبالقرآن المتواتر عنه وسنته
المتواترة عنه وسنة خلفائه الراشدين من بعده أنه
صلى الله عليه وسلم ذكر
أنه أرسل إلى أهل الكتاب اليهود والنصارى كما ذكر أنه أرسل إلى الأميين بل
ذكر أنه أرسل الى جميع بني آدم عربهم وعجمهم من الروم والفرس
والترك والهند والبربر والحبشة وسائر الأمم بل أنه أرسل إلى الثقلين الجن والإنس جميعا
وهذا
كله من الأمور الظاهرة المتواترة عنه التي اتفق على نقلها عنه أصحابه مع
كثرتهم وتفرق ديارهم وأحوالهم وقد صحبه عشرات ألوف لا يحصى عددهم على
الحقيقة إلا الله تعالى ونقل ذلك عنهم التابعون وهم أضعاف الصحابة عددا ثم
ذلك منقول قرنا بعد قرن
إلى زمننا مع كثرة المسلمين وانتشارهم في مشارق
الأرض ومغاربها كما أخبر بذلك قبل أن يكون فقال في الحديث الصحيح زويت لي
الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها وكان كما
أخبر فبلغ ملك أمته طرفي العمارة شرقا وغربا وانتشرت دعوته في وسط الأرض
كالإقليم الثالث والرابع والخامس لأنهم أكمل عقولا وأخلاقا وأعدل أمزجة
بخلاف طرفي الجنوب والشمال فإن هؤلاء نقصت عقولهم وأخلاقهم وانحرفت أمزجتهم
أما طرف الجنوب فإنه لقوة الحرارة احترقت أخلاطهم فاسودت ألوانهم وتجعدت شعورهم
وأما أهل طرق الشمال فلقوة البرد لم تنضج أخلاطهم بل صارت فجة فأفرطوا في سبوطة الشعر والبياض البادر الذي لا يستحسن
ولهذا
لما ظهر الإسلام غلب أهله على وسط المعمورة وهم أعدل بني آدم وأكملهم
والنصارى الذين تربوا تحت ذمة المسلمين أكمل من غيرهم من النصارى عقولا
وأخلاقا وأما النصارى المحاربون للمسلمين الخارجون عن ذمتهم من أهل الجنوب
والشمال فهم أنقص عقولا وأخلاقا ولما فيهم من نقص العقول والأخلاق ظهرت
فيهم النصرانية دون الإسلام
والقصود أن محمدا
صلى الله عليه وسلمهو نفسه دعا أهل الكتاب من اليهود والنصارى إلى الإيمان به وبما جاء به كما دعا من لا كتاب له من العرب وسائر الأمم
وهو
الذي أخبر عن الله تبارك وتعالى بكفر من لم يؤمن به من أهل الكتاب وغيرهم
وبأنهم يصلون جهنم وساءت مصيرا وهو الذي أمر بجهادهم ودعاهم بنفسه ونوابه
وحينئذ فقولهم في الكتاب لم يأت إلينا بل إلى الجاهلية من العرب سواء
أرادوا أن الله بعثه إلى العرب ولم يبعثه إلينا أو أرادوا أنه ادعى أنه
أرسل إلى العرب لا إلينا فإنه قد علم جميع الطوائف أن محمدا دعا اليهود
والنصارى إلى الإيمان به وذكر أن الله أرسله إليهم وأمره بجهاد من لم يؤمن
به منهم فإذا قيل مع هذا أنه قال لم أبعث إلا إلى العرب كان كاذبا كذبا
ظاهرا عليه سواء صدقه الإنسان أو كذبه فإن المقصود هنا أنه نفسه دعا جميع
أهل الأرض إلى الإيمان به فدعا أهل الكتاب كما دعا الأميين
أما اليهود
فإنهم كانوا جيرانه في الحجاز بالمدينة وما حولها وخيبر فإن المهاجرين
والأنصار كلهم آمنوا به من غير سيف ولا قتال بل لما ظهر لهم من براهين
نبوته ودلائل صدقه آمنوا به وقد حصل من الأذى في الله لمن آمن بالله ما هو
معروف في السيرة وقد آمن به في حياته كثير من اليهود والنصارى بعضهم بمكة
وبعضهم بالمدينة وكثير
منهم كانوا بغير مكة والمدينة فلما قدم المدينة
عاهد من لم يؤمن به من اليهود ثم نقضوا العهد فأجلى بعضهم وقتل بعضهم
لمحاربتهم لله ورسوله
وقد قاتلهم مرة بعد مرة قاتل بني النضير وأنزل
الله تعالى فيهم سورة الحشر وقاتل قريظة عام الأحزاب وذكرهم الله في سورة
الأحزاب وقاتل قبلهم بني قينقاع وبعد هؤلاء
غزا خيبر هو وأهل بيعة
الرضوان الذين بايعوه تحت الشجرة وكانوا ألفا وأربعمائة ففتح الله عليهم
خيبر واقر اليهود فيها فلاحين وأنزل الله تعالى سورة الفتح يذكر فيها ذلك
فكيف يقال إنه لم يذكر أنه أرسل إلا إلى مشركي العرب وهذه حال اليهود معه
كندة فأسلموا وفيها قدم وفد بني حنيفة وفيها قدم وفد بجيلة قال وفيها قدم العاقب والسيد من نجران فكتب لهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم كتاب صلح
وذكر محمد بن سعد في الطبقات قدومهم في
الوفود فقال
ذكر
بعث النبي صلى الله عليه و سلم خالد بن الوليد في شهر ربيع الآول سنة عشر
إلى بني الحارث بن كعب ذكره بإسناده أنبأنا محمد بن عمر حدثني إبراهيم بن
موسى المخزومي عن عبد الله بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث عن أبيه ثم
ذكر قدوم نصارى نجران من طريق علي بن محمد فقال أنا علي بن محمد وهو
المدائني عن أبي معشر عن يزيد بن
رومان ومحمد بن كعب قال وأنا علي بن
مجاهد عن محمد بن إسحاق عن الزهري وعكرمة بن خالد وعاصم بن عمر بن قتادة
أنا يزيد بن عايض بن جعدية عن عبد الله بن
أبي بكر بن حزم وعن غيرهم من
أهل العلم يزيد بعضهم على بعض قالوا ووفد فلان وفلان في رجال من خثعم إلى
رسول الله صلى الله عليه و سلم بعدما هدم جرير بن عبد الله رضي الله عنه ذا
الخلصة وقتل من قتل من خثعم فقالوا آمنا بالله ورسوله
فاكتب لنا كتابا وذكروا القصة وقدوم وفود متعددة
قالوا وقدم وفد نجران وكتب رسول الله
صلى الله عليه وسلمإلى أهل نجران فخرج إليه أربعة عشر من أشرافهم نصارى وفيهم ثلاثة نفر يتولون أمورهم
العاقب
واسمه عبد المسيح رجل من كندة وهو أميرهم وصاحب مشورتهم والذي يصدرون عن
رأيه وأبو الحارث أسقفهم وإمامهم وصاحب مدارسهم والسيد وهو صاحب رحلتهم
فدخلوا
المسجد وعليهم ثياب الحبرة وأردية مكفوفة بالحرير فقاموا
يصلون في المسجد نحو المشرق فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم دعوهم ثم أتوا النبي
صلى الله عليه وسلم فأعرض عنهم فلم يكلمهم فقال لهم عثمان ذلك من أجل زيكم هذا فانصرفوا يومهم
ذلك ثم غدوا عليه بزي الرهبان فسلموا عليه فرد عليهم ودعاهم إلى
الإسلام فأبوا وكثر الكلام والحجاج بينهم وتلا عليهم القرآن وقال رسول الله صلى
الله عليه و سلم إن أنكرتم ما أقول فهلم أباهلكم فانصرفوا على ذلك فغدا عبد
المسيح ورجلان من ذوي رأيهم على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا قد
بدا لنا أن لا نباهلك فاحكم علينا بما أحببت نعطك ونصالحك فصالحهم على ألفي
حلة في رجب وألف في صفر أو قيمة كل حلة من الأواقي وعلى عارية ثلاثين درعا
وثلاثين رمحا وثلاثين بعيرا وثلاثين فرسا أن كان باليمن كيد
ولنجران
وحاشيتهم جوار الله وذمة محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم على أنفسهم
وملتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وبيعهم لا يغير أسقف من سقيفاه ولا
راهب من رهبانيته ولا واقف من وقفانيته وأشهد على ذلك شهودا منهم
أبو سفيان بن حرب والأقرع بن حابس والمغيرة بن شعبة فرجعوا إلى بلادهم فلم يلبث السيد والعاقب إلا يسيرا حتى رجعا إلى النبي
صلى الله عليه وسلمفأسلما وأنزلهما دار أبي أيوب الأنصاري وأقام أهل نجران على ما كتب لهم به النبي صلى الله
عليه وسلم حتى قبضه الله صلوات الله عليه ورحمته ورضوانه
ثم
ولي أبو بكر الصديق رضي الله عنه فكتب بالوصاة بهم عند وفاته ثم أصابوا
ربا فأخرجهم عمر بن الخطاب من أرضهم وكتب لهم هذا ما كتب عمر أمير المؤمنين
لنجران أنه من سار منهم أنه آمن بأمان الله لا يضرهم أحد من المسلمين ووفى
لهم بما كتب لهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أما بعد فمن وقعوا به من أمراء الشام وأمراء العراق فليوسعهم من
جريب الأرض فما اعتملوا من ذلك فهو لهم صدقة وعقبة لهم فكان أرضهم لا سبيل
عليهم فيه لأحد ولا مغرم
أما بعد فمن حضرهم من رجل مسلم فلينصرهم على من
ظلمهم فإنهم أقوام لهم الذمة وجزيتهم عنهم متروكة أربعة وعشرين شهرا بعد
أن يقدموا ولا يكلفوا إلا من ضيعتهم التي اعتملوا غير مظلومين ولا معنوف
عليهم شهد
عثمان بن عفان رضي الله عنه ومعيقيب ابن أبي فاطمة فوقع ناس منهم العراق فنزلوا النجرانية التى بناحية الكوفة