تحريم شد الرحل إلى القبور وبيان أن ذلك هو مذهب السلف
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((وأما السفر إلى زيارة قبور الأنبياء الصالحين فلا يجب بالنذر عند أحد منهم لأنه ليس بطاعة)).
علق الشيخ ربيع:
((زيارة
القبور مشروعة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عنها من باب سد
الذرائع؛ لأن الأمم السابقة فتنت بقبور أنبيائها وصالحيها حتى أوقعهم
الشيطان كرات ومرات في هوة الشرك بهم واتخاذهم أنداداً مع الله، وأول فتنة
من فتن الشرك وقعت لقوم نوح إذ تعلقت قلوبهم بود وسواع ويغوث ويعوق ونسر،
وهم رجال صالحون فجعلوهم أنداداً مع الله.
من
أجل ذلك وأمثاله نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً عن زيارة القبور،
ولما رسخت عقيدة التوحيد في قلوب أصحابه الكرام وأمن عليهم الفتنة رخص لهم
في زيارتها، وبين لهم الغاية من زيارتها وهي أنها تذكرهم الآخرة، هذه
واحدة، والأخرى ليستفيد الأموات من دعاء إخوتهم الأحياء.
وإذا
كان الأمر كذلك، والهدف الأول وهو تذكرة الآخرة، أمر يتحقق بزيارة القبور
القريبة والمجاورة، حتى ولو كانت قبور قوم مشركين اكتفى الشارع الحكيم
بالحد الأدنى الذي يحقق الغرض الشرعي مع تحفظات كثيرة تسد ذرائع الفتنة
والشرك : منها أن لا يقولوا هجراً، ومنها أن لا تتخذ مساجد، ومنها أن لا
يبنى عليها، ولا تجصص، ولا يصلى عليها ولا إليها، اكتفى بالحد الأدنى مع
هذه الاحتياطات والتحفظات.
ولم يشرع أبداً السفر إليها وشد الرحال إليها، لا بقوله ولا بفعله.
وآية
ذلك: أن هذا الأمر لم ينزل فيه قرآن، ولم يثبت فيه حديث من قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم أو فعله، فلو كان مشروعاً لتحقق فيه كل ذلك ولسن لنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك برحلات ورحلات إلى قبور الأنبياء
والصالحين.
ولملئت الدواوين برحلات
الصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان، ونحن نجد دواوين الإسلام من صحاح
وسنن ومسانيد وكتب فقه السلف الصالح قد سجلت كل حقوق الأموات من عيادتهم
وهم مرضى إلى غسلهم وتحنيطهم وتشييعهم ودفنهم وزيارتهم والاستغفار لهم
والدعاء لهم والنهي عن الجلوس على قبورهم، ومن جهة أخرى لحماية عقيدة
الأحياء من المسلمين نهي عن البناء على قبور الأموات بأي شكل وبأي صورة لا
مساجد ولا مطلق بناء ولا بتجصيص.
كل هذا
قد طفحت به دواوين الإسلام التي نوهنا عنها، خالية خلواً كاملاً من حديث
نبوي صحيح أو حسن، ومن أقوال الصحابة والقرون المفضلة، ومن أقوال أئمة
الهدى من شيء له تعلق بقضية السفر إلى القبور، فهذا الإمام مالك لا تجد له
كلمة في موطأه تشير إلى السفر وشد الرحال إلى قبر رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولا إلى قبر غيره، وهذه كتب تلاميذه التي دونوا فيها فقه هذا الإمام
لا نجد فيها باباً ولا فصلاً ولا حديثاً يحث المسلمين على شد الرحال والسفر
إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء والصالحين.
وهذا
الإمام الشافعي يدون فقهه العظيم في الأم وغيرها، فلم يعقد باباً ولا
فصلاً، ولم يذكر حديثاً واحداً بشأن السفر إلى قبور الأنبياء.
وهذا الإمام أحمد بن حنبل وهذا مسنده العظيم ومسائله التي دونت في كتب لا تجد لهذه المسألة فيها أثراً ولا خبراً.
وهذان
الصحيحان، وبقية الأمهات الست وأخواتها من دواوين الإسلام المعتبرة، خلت
خلواً كاملاً عن قضية شد الرحال والسفر إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم
أو إلى قبور غيره من الأنبياء.
وهذه كتب أبي حنيفة وأصحابه أبي يوسف ومحمد نبحث فيها، فلا نجد فيها ذكراً لهذه المسألة.
فما هو السر إذن في عمل هؤلاء الصحابة والتابعين والأئمة من الفقهاء والمحدثين؟
ويجب
أن يقف جميع العقلاء متسائلين : هل ينقصهم حب رسول الله صلى الله عليه
وسلم ؟ هل كان هناك مادة خصبة وأحاديث وآثار أهملوها بل كتموها ودفنوها كما
فعلوا بوصية علي في نظر الباطنية وغلاة الرفض؟
إن
المنتسبين إلى السنة على اختلاف اتجاهاتهم بحمد الله لا يظنون بسلفهم هذا
الظن السيئ، ولكنها الغفلة ودغدغة شياطين الإنس والجن لعواطف الحب العمياء
التي لا تميز بين حق وباطل، وبين جفاء وإفراط وإطراء، إنه ليس بأيدي
المتحمسين لهذه المسألة مسألة شد الرحال إلى القبور التي يبالغون فيها وقد
يكفرون من يخالفهم إلا غثاء وسرابٌ من الأحاديث الباطلة لا يدعمها كتاب ولا
سنة، ولا قول صحابي ولا إمام من أئمة الإسلام.
إنا
نقول لهؤلاء ما نقتبسه من قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم
بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا
مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ }.
نقول
لكم: قوموا مثنى وفرادى وجماعات، وشكلوا لجانا واعقدوا مؤتمرات وفكروا في
كل ذلك وقلبوه بطنا لظهر، لماذا أهمل سلفكم الصالح وأقصد بهم القرون
المفضلة هذه القضية المهمة؟ ولماذا لم يحتفوا بها ويسجلوها في دواوينهم
الفقهية والحديثية والعقائدية؟ هل أصابتهم جنة أو جفاء أو أن القضية لا
أساس لها؟ لعل احترامكم لسادة هذه الأمة وسلفها الصالح وحسن ظنكم بهم
يدفعانكم إلى الاعتراف بالحقيقة.
والواقع
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل ولم يأمر بشيء من هذا، بل عمل
عكس هذا تماماً من الاحتياطات والتحفظات التي ذكرناها، وما أروعها وأنصفها
وأوضحها وأكثرها وأبركها على الأمة!
ونختم هذا بقوله صلى الله عليه وسلم : "لا تجعلوا قبري عيداً".
وفعل
أصحابه تنفيذاً لهذا التوجيه السديد وأمثاله؛ حيث دفنوه في حجرته خشية أن
يتخذ قبره مسجداً، كما قالته عائشة ورواه الشيخان وغيرهما.
وما كانوا يأتون قبره، كما روى ذلك عبد الرزاق عن معمر عن عبيد الله بن عمر العمري الإمام.
وفق الله الأمة للعودة إلى الإسلام الحق وإلى اتباع نبيها وسلفها الصالح)).
[حاشية قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة]
هل كان الصحابة يأتون قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية: ((قال : وفي الموطأ من رواية يحيى بن يحيى الليثي
أنه كان - يعني ابن عمر - يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي على
النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر)).
علق الشيخ ربيع:
((الشفاء
(2/86). وهو في الموطأ (1/166)، 9 - كتاب قصر الصلاة في السفر، برقم (68)،
مالك عن عبد الله بن دينار، "رأيت ابن عمر يقف على قبر النبي صلى الله
عليه وسلم، فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر - رضي
الله عنهما -".
وفي المصنف لعبد الرزاق
(3/576)، باب السلام على قبر النبي صلى الله عليه وسلم حديث (6724): "عبد
الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى
قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: السلام عليك يارسول الله! السلام عليك
يا أبا بكر! السلام عليك يا أبتاه!".
وأخبرناه
عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر. قال معمر: فذكرت ذلك لعبيد الله بن
عمر، فقال: "لا نعلم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك"
إلا ابن عمر.
أقول: يستفاد من قول عبيد
الله بن عمر، الإمام المدني، الثقة الثبت، أن الصحابة الكرام - وفيهم
الخلفاء الراشدون - ما كانوا يأتون قبر النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما
كان من عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - إذا قدم من سفر، مع حبهم الشديد
لرسول الله صلى الله عليه وسلموإكرامهم إياه وطاعتهم وانقيادهم له.
فهل آن للأمة الإسلامية أن تثوب إلى رشدها، فتتبع هؤلاء العظماء والفقهاء النبلاء.
وإننا
على ثقة أنهم ما وقفوا جميعاً هذا الموقف إلا على أساس متين، وصراط مستقيم
من العلم النبوي الصحيح، وعلى إدراك واع لمقاصد الشريعة وأهدافها، إنه ما
كان ذلك منهم - مع حبهم الشديد الصادق لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا
تنفيذاً لتوجيهاته الكريمة؛ مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لاتتخذوا قبري
عيدًا". ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد".
ومثل قوله صلى الله عليه وسلم - وبأبي وأمي هو -: "لعنة الله على اليهود
والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
تنفيذاً
لهذه التوجيهات العظيمة الهادفة إلى حماية التوحيد، وصيانة العقيدة
الإسلامية من شوائب الغلو والضلال الذي وقع فيه أهل الكتاب، كان ذلك الموقف
الواعي الرشيد من الصحابة الكرام، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون والفقهاء
المبرزون مثل زيد بن ثابت وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وغيرهم من
علماء الصحابة وعظمائها وساداتها، فما هم إلا جند الله ثم جند محمد صلى
الله عليه وسلم، جند له في حياته يفدونه ورسالته بمهجهم وأموالهم وأرواحهم،
وجند له أوفياء بعد وفاته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى، فلله درهم ما
أفقههم وأنبلهم وأوفاهم!.
فهل للأمة
الإسلامية أن تتأسى بهؤلاء العظماء الأوفياء في تنفيذ هذه التوجيهات وغيرها
مما جاء به خاتم الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؟ ولله در إمام
دار الهجرة - رحمه الله - إذ قال حين خالف بعض الناس بعض هذه التوجيهات
وبدأوا يترددون على القبر: لا أعرف هذا عمن مضى، ولا يصلح آخر هذه الأمة
إلا ما أصلح أولها. وسيأتي كلامه فنشير إلى مصدره في موضعه)).
[حاشية قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة]
الرد على ابن حجر الهيثمي في زعمه وجوب الوفاء لمن نذر زيارة القبر
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((ولو نذر السفر إلى مسجده والمسجد الأقصى للصلاة ففيه قولان للشافعي)).
علق الشيخ ربيع
((قال
الشافعي - رحمه الله - في الأم (2/256): "ولو نذر، فقال عليّ المشي إلى
إفريقية أو العراق أو غيرهما من البلدان لم يكن عليه شيء، لأنه ليس لله
طاعة في المشي إلى شيء من البلدان، وإنما يكون المشي إلى المواضع التي
يرتجى فيها البر، وذلك المسجد الحرام، وأحبّ إليَّ لو نذر أن يمشي إلى مسجد
المدينة أن يمشي، وإلى مسجد بيت المقدس أن يمشي؛ لأن رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام،
ومسجدي هذا، ومسجد بيت المقدس"، ولا يبين لي أن أوجب المشي إلى مسجد النبيصلى
الله عليه وسلم ومسجد بيت المقدس، كما يبين لي أن أوجب المشي إلى بيت
الله الحرام؛ وذلك أن البر بإتيان بيت الله فرض، والبر بإتيان هذين نافلة".
وانظر حلية العلماء للقفال الشاشي 3/342
. وقال
أبو إسحاق الشيرازي في المهذب: "وإن نذر المشي إلى المسجد الأقصى ومسجد
المدينة ففيه قولان؛ قال في البويطي يلزمه، لأنه مسجد ورد الشرع بشد الرحال
إليه، فلزمه المشي إليه بالنذر، كالمسجد الحرام
وقال في الأم: لا يلزمه، لأنه مسجد لا يجب قصده بالنسك، فلم يجب المشي إليه بالنذر كسائر المساجد". وانظر حلية العلماء 3/342
وذكر
النووي هذين القولين في الإيضاح (ص 518 - 519) مع شرح ابن حجر الهيتمي.
وقال ابن حجر الهيتمي هنا (ص 519): "ولو نذر زيارة قبرفعليه وسلم لزم
الوفاء به؛ لما علمت أنها في القرب المؤكدة، وكذا زيارة قبر غيره مما تسن
زيارته؛ لأنها قربة مقصودة".
وهذا من العجائب والغرائب، لقد علم ابن حجر أن مذهب الشافعي استحباب الوفاء بالنذر بالذهاب إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وبيت
المقدس وتهيبه من القول بالوجوب خوفاً من الله وورعاً، وأكد ذلك النووي في
الإيضاح بأن أصح القولين الاستحباب، وأقرهما ابن حجر على ذلك، ثم بعد كل
هذا يرى وجوب وفاء النذر بزيارة القبور؛ لأنها في نظره من القرب المؤكدة،
فهل شد الرحال إلى مسجد رسول الله وإلى بيت المقدس لا يرقى إلى درجة القرب
المؤكدة، وقد حضنا رسول الهدى صلى الله عليه وسلم إلى شد الرحال إليهما
مع أعظم بيوت الله المسجد الحرام
أهكذا نعامل توجيهات رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
إن كان ابن حجر الهيثمي مقلداً للشافعي فأين تقليده لإمامه هنا؟ ولماذا لا
يلزم غرره هنا ويقف حيث وقف إمامه ورعاً وتقوى، وإن كان مجتهداً فنعوذ
بالله من اجتهاد يقوم على مخالفة النصوص الصحيحة الواضحة وعلى مخالفة أئمة
الهدى، ويقوم على الهوى وعلى الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله
عليه وسلم ثم نقول أين فتاوى السلف الصالح في هذه القضية؟وهل هي نازلة من النوازل التي ألمت بالأمة لم تكن في عهد السلف الصالح حتى يجتهد فيها المتأخرون؟!)).