وأما أحوال رجال أسانيدهم وطبقات أسلاف الشيعة، وأصول الضلالات كانوا عدة طبقات:
الطبقة
الأولى: هم الذين استفادوا هذا المذهب بلا واسطة، من رئيس المضلين إبليس
اللعين وهؤلاء كانوا منافقين، جهروا بكلمة الإسلام وأضمروا في بطونهم عداوة
أهله، وتوصلوا بذلك النفاق إلى دخول في زمرة المسلمين والتمكن من إغوائهم
وإيقاع المخالفة والبغض والعناد فيما بينهم، ومقتداهم على الإطلاق عبد الله
بن سبأ اليهودي الصنعاني الذي كان شراً من إبليس وأعرف منه في الإضلال
والتضليل، وأقدم منه في المخادعة والغرور بل شيخه في
المكر والشرور، وقد مارس زماناً في اليهودية فنون الإغواء والإضلال وسعى مجتهداً
في طرق الزور والاحتيال فأضل كثيراً من الناس واستزل جماً غفيراً أطفأ
منهم النبراس، وطفق يغير عقائد العوام ويموه عليهم الضلالات والأوهام،
فأظهر أولاً محبة كاملة لأهل البيت النبوي، وحرض الناس على ذلك الأمر
العلي، ثم بين وجوب لزوم جانب الخليفة الحق وأن يُؤثر على غيره، وأن ما
عداه من البغاة فاستحسنه جمّ من العوام الغفير، وقبله ناس من الجهلة
كثيرون، فأيقنوا بصلاحه واعتقدوا بإرشاده ونصحه.
ثم فرّع على ذلك فروعاً
فاسدة وجزئيات كاسدة فقال: إن الأمير رضي الله عنه هو وصيّ رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم وأفضل الناس بعده وأقربهم إليه، واحتج على ذلك
بالآيات الواردة في فضائله والآثار المروية في مناقبه، وضم إليها من
موضوعاته وزاد عليها من كلماته وعباراته.
فلما رأى أن ذلك الأمر قد
استقر في أذهان أتباعه, واستحكمت هذه العقيدة في نفوس أشياعه ألقى إلى بعض
هؤلاء ممن يعتمد عليه: أن الأمير وصيّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأن
النبي صلّى الله عليه وسلّم استخلفه بنص صريح، وهو قوله تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ [المائدة:55]
ولكن
الصحابة قد ضيعوا وصيته عليه الصلاة والسلام وغلبوا الأمير بالمكر والزور
وظلموه فعصوا الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وارتدوا عن الدين -
إلا القليل منهم - محبة في الدنيا وطمعاً في زخارفها.
واستدل على ذلك بما وقع بين فاطمة رضي الله تعالى عنها وبين أبي بكر رضي الله عنه في مسألة فدك
إلى
أن ينتهي الأمر إلى الصلح. ثم أوصى أتباعه بكتمان هذا الأمر وعدم نسبته
إليه وقال: "لا تظهروا للناس أنكم أتباعي لأن غرضي إظهار الحق والهداية إلى
الطريق المستقيم دون الجاه والشهرة عند الناس".
فمن تلك الوسوسة ظهر
القيل والقال ووقع بين المسلمين التفرّق والجدال، وانتشر سب الصحابة الكرام
وذاع الطعن فيهم من أولئك الطغام، حتى إن الأمير رضي الله عنه قد خطب فوق
المنبر خطباً كثيرة في ذم هؤلاء القوم وأظهر البراءة منهم وأوعد بعضهم
بالضرب والجلد.
فلما رأى ابن سبأ أن سهمه هذا أيضاً قد أصاب هدفاً
واختلّت ذلك عقائد أكثر المسلمين اختار أخص الخواص من أتباعه وألقى إليهم
أمراً أدهى من الأول وأمرّ، وذلك بعد أن أخذ عليهم ميثاقاً غليظاً أن
الأمير رضي الله عنه يصدر منه ما لا يقدر عليه البشر من قلب الأعيان،
والإخبار بالمغيبات، وإحياء الموتى، وبيان الحقائق الإلهية والكونية،
وفصاحة الكلام، والتقوى والشجاعة، والكرم، إلى غير ذلك مما لا عين رأت ولا
أذن سمعت، فهل تعلمون منشأ هذه الأمور؟
فلما أظهروا العجز عن ذلك قال
لهم: إن هذه كلها من خواص الألوهية التي تظهر في بعض المظاهر، ويتجلّى
اللاهوت في كسوة الناسوت، فاعلموا أن علياً هو الله، ولا إله إلا هو.
فلما
وصلت هذه المقالة إلى الأمير رضي الله عنه أهدر دماء تلك الطائفة وتوعدهم
بالإحراق في النار، واستتابهم فأجلاهم إلى المدائن، فلما وصلوا إليها
أشاعوا تلك المقالة الشنيعة.
وأرسل ابن سبأ بعض أتباعه إلى العراق
وأذربيجان، ولما لم يستأصلهم أمير المؤمنين رضي الله عنه بسبب اشتغاله بما
هو أهم راج مذهبه واشتهر وذاع وانتشر، فقد بدأ أولاً بتفضيل الأمير
وثانياً بتكفير الصحابة، وثالثاً بألوهية الأمير ودعا الناس على حسب
استعدادهم، وربط رقاب كل من اتبعه بحبل من حبال الغواية، فهو قدوة لجميع
الفرق الرافضة، وإن أكثر أتباعه
وأشياعه من تلك الفرق يذكرونه بالسوء
لكونه قائلاً بألوهية الأمير ويعتقدون أنه مقتدى الغلاة فقط، ولذا ترى
أخلاق اليهود وطبائعهم موجودة في جميع فرق الشيعة، وذلك مثل الكذب،
والبهتان، وسب أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وكبائر أئمة الدين وحملة
كلام الله تعالى وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم وحمل كلام الله تعالى
والأحاديث على غير ظاهرها، وكتم عداوة أهل الحق في القلب، وإظهار التملّق
خوفاً وطمعاً، واتخاذ النفاق شعاراً ودثاراً، وعدّ التقية من أركان الدين،
ووضع الرقاع المزورة ونسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة، وإبطال
الحق وإحقاق الباطل لأغراض دنيوية. وهذا الذي ذُكر قطرة من بحر وذرّة من
جبل. وإذا تفكرت في سورة البقرة وحفظت ما ذكر الله تعالى فيها من صفات
اليهود الذميمة ترى جميعها مطابقة لصفات هذه الفرقة مطابقة النعل بالنعل.
الطبقة الثانية: جماعة ممن ضعف إيمانهم من أهل النفاق، وهم قتلة عثمان
وأتباع
عبد الله بن سبأ الذين كانوا يسبون الصحابة الكرام، وهم الذين انخرطوا في
عسكر الأمير وعدّوا أنفسهم من شيعته خوفاً من عاقبة ما صدر منهم من تلك
الجناية العظمى، وبعض منهم تشبثوا بأذيال الأمير طمعاً في المناصب العالية
ورفعة المراتب فحصل لهم بذلك مزيد من الأمنية وكمال الطمأنينة، ومع ذلك فقد
أظهروا للأمير رضي الله عنه ما انطووا عليه من
اللؤم والخبائث فلم يستجيبوا لدعوته وأصروا على مخالفته، وظهرت منهم
الخيانة على ما نصبوا عليه، واستطالت أيديهم على عباد الله تعالى وأكل أموالهم، وأطالوا ألسنتهم في الطعن على الصحابة.
وهذه
الفرقة هم رؤساء الروافض وأسلافهم ومسلّموا الثبوت عندهم، فإنهم وضعوا
بناء دياناتهم وإيمانهم في تلك الطبقة على رواية هؤلاء الفساق المنافقين
ومنقولاتهم، فلذا كثرت روايات هذه الفرقة عن الأمير رضي الله عنه بواسطة
هؤلاء الرجال.
وقد ذكر المؤرخون سبب دخول أولئك المنافقين في هذا الباب
وقالوا إنهم قبل وقوع التحكيم كانوا مغلوبين لكثرة الشيعة الأولى في عسكر
الأمير وتغلبهم، ولما وقع التحكيم وحصل
اليأس من انتظام أمور الخلافة وكادت المدة المعينة للخلافة تتم وتنقرض وتخلفها
نوبة العضوض رجعت الشيعة الأولى من دومة الجندل التي كانت محل التحكيم إلى
أوطانهم لحصول
اليأس من نصرة الدين وشرعوا بتأييده بترويج أحكام الشريعة والإرشاد ورواية
الأحاديث وتفسير القرآن المجيد، كما أن أمير المؤمنين رضي الله عنه دخل
الكوفة واشتغل بمثل هذه الأمور، ولم يبق في ركاب أمير المؤمنين إذ ذاك من
الشيعة الأولى إلى القليل ممن كانت له دار في الكوفة.
فلما رأت هاتيك
الفرقة الضالة المجال في إظهار ضلالتهم أظهروا ما كانوا يخفونه من إساءة
الأدب في حق الأمير وأتباعه الأحياء منهم والأموات، ومع هذا كان لهم طمع في
المناصب أيضاً لأن العراق وخراسان وفارس والبلاد الأُخرى الواقعة في تلك
الأطراف كانت باقية بعدُ في تصرّف الأمير وحكومته، والأمير رضي الله عنه
عاملهم بما عاملوه.
ولما كانت الروايات من أهل السنة في هذا الباب غير
معتدّ بها لمزيد عدواتهم لفرق الشيعة على حد زعمهم، وجب النقل من كتب
الشيعة المعتبرة مما صنفه الإمامية.
ولما نعى الأمير بخبر قتل محمد بن
أبي بكر في مصر كتب كتاباً إلى عبد الله بن عباس، فإنه كان حينئذٍ عامل
البصرة، وهو مذكور في كتاب (نهج البلاغة) الذي هو عند الشيعة أصح كتاب بعد
كتاب الله تعالى:
"أما بعد فإن مصر قد افتتحت، ومحمد بن أبي بكر استشهد،
فعند الله نحتسبه ولداً صالحاً وعاملاً كادحاً وسيفاً قاطعاً وركناً
دافعاً. وكنت قد حثثت الناس على لحاقه، وأمرتهم بغياثه قبل الوقعة، ودعوتهم
سراً وجهراً وعوداً وبدءاً، فمنهم الآتي كارهاً ومنهم المُتعلّل كاذباً،
ومنهم القاعد خاذِلاً. أسأل الله أن يجعل لي منهم فرجاً عاجلاً. فوالله
لولا طمعي عند لقاء العدو في الشهادة، وتوطيني نفسي على المنية، لأحببت أن
لا أبقى مع هؤلاء يوماً واحداً ولا ألتقي بهم أبداً".
وكذا لما أُخبر
بقدوم سفيان بن عوف الذي كان من بني غامد وأمير أمراء معاوية (رضي الله
عنه) وركبانه ببلد الأنبار وقتلهم أهله خطب خطبة مندرجة فيها هذه العبارة
المشيرة للإرشاد: "والله يميتُ القلبَ ويجلب الهمّ ما نرى من اجتماع هؤلاء
على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، فقبحاً وترحاً حين صرتم غرضاً يُرمى: يغار
عليكم ولا تغيرون، وتُغزون ولا تغزون، ويُعصى الله وترضون، فإذا أمرتكم
بالسير إليهم في أيام الحر قلتم هذه حمارة القيظ أمهلنا حتى ينسلخ عنا
الحر، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام البرد قلتم هذه صبارة القُرّ
أمهلنا حتى ينسلخ عنا البرد. كل هذا فراراً من الحر والقر، فإذا كنتم من
الحر والقرّ تفرّون فأنتم والله من السيف أفرّ، يا أشباه الرجال ولا رجال،
حُلُومُ الأطفال، وعُقُولُ ربات الحجول. لوددتُ أني لم أعرفكم، معرفةٌ
والله جرَّت ندماً، وأعقبت سَدَماً".
وأيضاً يقول في هذه الخطبة:
"قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحاً. وشحنتُم صدري غيظاً، وجرّعتُمُوني
نُغَبَ التهمام أنفاساً، وأفسدتم عليَّ رأيي بالخذلان والعصيان، حتى قالت
قُريشٌ: إن ابن أبي طالب رجلٌ شُجاعٌ ولكن لا علم له بالحرب، لله أبوهم وهل
أحد منهم أشدّ لها مِراساً وأقدم فيها مقاماً مني، لقد نهضتُ فيها وما
بلغت العشرين، وها أنا ذرفتُ على الستين ولكن لا رأي لمن لا يُطاع".
ويقول
في خطبة أخرى: "أيها الناس المجتمعةُ أبدانهم، المختلفةُ أهواؤهم، كلاكم
يوهي الصُّمُّ الصِّلاب، وفعلكم يُطمع فيكمُ الأعداء. تقولون في المجالس
كيت وكيت، فإذا حضر القتال قلتم: حيدي حياد. ما عزَّت دعوة من دعاكم ولا
استراح قلبُ من قاساكم. أعاليل بأضاليل..." إلخ.
ويقول:"المغرور والله
من غررتموه، ومن فاز بكم فقد فاز والله بالسَّهم الأخيب. ومن رَمَى بكم فقد
رمى بأفوَقَ ناصل. أصبحتُ والله لا أُصدقُ قولكم، ولا أطمع في نصركم ولا
أوعِدُ العدوّ بكم".
ويقول في خطبة أخرى إذ استنفر الناس إلى أهل
الشام:" أفٍ لكم، لقد سئمت عتابكم، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضاً،
وبالذلّ من العزّ خلفاً؟ إذا دعوتكم إلى جهاد أعدائكم دارت أعينكم كأنكم
من الموت في غَمرة، ومن الذُّهول في سكرة، يُرتج عليكم حَواري فتعمهون،
وكأن قلوبكم مألوسةٌ فأنتم لا تعقلون، ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي، وما
أنتم بركن يُمال بكم ولا زوافِر عز يفتقر إليكم، ما أنتم إلا كإبل ضلّ
رعاتها. فكلما جُمعت من جانبٍ انتشرت من آخر، وبئس لعمر الله سعرُ نار
الحرب أنتم، تُكادون ولا تكيدون، وتُنقص أطرافكم ولا تمتعضون، لا يُنام
عنكم وأنتم في غفلة ساهون".
وأيضاً يقول في خطبة أخرى:"مُنيت بمن لا
يُطيع إذا أمرت، ولا يُجيب إذا دعوت. لا أباً لكم، ما تنظرون بنصركم ربّكم؟
لا دين يجمعكم ولا حمية تُحمشكم. أقول فيكم مُستصرخاً، وأناديكم متغوّثاً،
فلا تسمعون لي قولاً، ولا تطيعون لي أمراً، حتى تكشف الأمور عن عواقب
المساءة، فما يُدرك بكم ثأر، ولا يُبلغ منكم مرام. دعوتكم إلى نصر إخوانكم
فجرجرتم جرجرة الحمل الأسرّ، وتثاقلتم تثاقل النّضو الأدبر. ثم خرج إليّ
منكم جُنيد متذائب ضعيفكَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ [الأنفال:6].
ويقول:
"كم أُداريكم كما تُدارى البِكار العَمِدة والثيابِ المتداعية إن حيصت من
جانبٍ تهتكت من آخرَ، وكلما أطلّ عليكم مِنسر من مناسر أهل الشام أغلق كل
رجل منكم بابه وانجحر انجحار الضبَّة في جحرها والضبع في وجارها".
وأيضاً في خطبة أخرى:"من رمى بكم فقد رمى أفوق ناصل، إنكم والله لكثير في الباحات، قليل تحت الرايات".
وهذه الخطب كلها ذكرها الرضي في (نهج البلاغة) وغيره من الإمامية أيضاً رووها في كتبهم.
وقال علي بن موسى بن طاووس
سبط
محمد بن الحسن الطوسي: إن أمير المؤمنين كان يدعو الناس على منبر الكوفة
إلى قتال البغاة، فما أجابه إلا رجلان، فتنفس الصعداء وقال: أين يقعان. ثم
قال ابن طاووس: إن هؤلاء مع اعتقادهم فرض طاعته وأنه صاحب الحق، وأن الذين
ينازعونه على الباطل. وكان عليه السلام يداريهم ولكن لا تجديه
المداراة نفعاً. وقد سمع قوماً من هؤلاء ينالون منه في مسجد الكوفة ويستخفون به، فأخذ بعضادتي الباب وأنشد متمثلاً:
هنيئاً مريئاً غير داء مُخامر
|
|
لعزّة من أعراضنا ما استحلّت |
فيئس منهم كلهم، ودعا على هؤلاء الذين يدّعون شيعته بقوله: "قاتلكم الله، وقبحاً لكم وترحاً". ونحوها.
وكذا
حلف على أن لا يُصدّق قولهم أبداً. ووصفهم في مواضع كثيرة بالعصيان
لأوامره وعدم استماعهم وقبولهم لكلامه، وأظهر البراءة من رؤيتهم.
وهؤلاء لم يكن لهم وظيفة سوى الحطّ على حضرة الأمير رضي الله عنه وذمهم له، وحاشاه.
وقد
علم أيضاً أن شيعة ذلك الوقت كانوا كلهم مشتركين في هذه الأحوال، وداخلين
في هذه المساوئ إلا رجلين منهم، فإذا كان حال الصدر الأول والقرن الأفضل
الذين هم قدوة لمن خلفهم من بعدهم وأسوة لأتباعهم ما سمعت ذكره، فكيف
بأتباعهم؟ فويلٌ لهم مما يكسبون.
الطبقة الثالثة: هم الذين اتبعوا السيد
المجتبى السبط الأكبر وقرة عين البتول الإمام الحسن رضي الله عنه، بعد
شهادة الأمير رضي الله عنه، وبايعه قدر أربعين ألفاً على الموت، ورغبّوه في
قتال معاوية (رضي الله عنه) وخرجوا إلى خارج الكوفة، وكان قصدهم إيقاعه في
ورطة الهلاك، وقد أزعجوه في أثناء الطريق بطلب وظائفهم منه، وظهر منهم في
حقه سوء الأدب ما ظهر، كما فعل المختار الثقفي من جرّ مصلاه من تحت قدمه
المباركة، وهو الذي كان يعدّ نفسه من أخصّ شيعته، وكطعن آخر بالسنان فخذ
الإمام رضي الله عنه حتى تألم منه ألماً شديداً.
فلما قامت الحرب على
ساق، وتحققت المقاتلة، رغبوا إلى معاوية (رضي الله عنه) لدنياه وتركوا نصرة
الإمام، مع أنهم كانوا يدّعون أنهم من شيعته المخصوصين وشيعة أبيه، وأنهم
أحدثوا مذهب التشيع وأسسوه. ذكر ذلك المرتضى في كتابه (تنـزيه الأنبياء
والأئمة) عند ذكر عذر الإمام الحسن عن صلح معاوية وخلع نفسه من الخلافة
وتفويضها إليه. وذكر أيضاً نقلاً عن كتاب (الفصول) للإمامية أن رؤساء هذه
الجماعة كانوا يكتبون معاوية (رضي الله عنه) خفياً على الخروج للمحاربة مع
الإمام، بل بعضهم أراد الفتك به رضي الله عنه، فلما تحققت هذه الأمور عنده
رضي بالصلح مع معاوية (رضي الله عنه) وخلع الخلافة عن نفسه.
الطبقة
الرابعة: هم أكثر أهل الكوفة الذين طلبوا حضرة السبط الأصغر وريحانة سيد
البشر صلى الله عليه وسلم الحسين رضي الله تعالى عنه، وكتبوا إليه كتباً
عديدة في توجهه إلى طرفهم، فلما قرب من ديارهم مع الأهل والأقارب والأصحاب,
وأخذت الأعداء تؤجج نيران الحرب في مقابلته، تركه أولئك الكذابون وتقاعدوا
عن نصرته وإعانته، مع كثرة عدد الأعداء وقوة شوكتهم. بل رجع أكثرهم مع
الأعداء خوفاً وطمعاً، وصاروا سبباً لشهادته وشهادة كثير ممن معه، حتى مات
الأطفال والصبيان الرضع من شدة العطش، وأغروا ذوات الخدور والمستورات
بالحجب من بيت النبوة وأطافوهم في البلاد والقرى والبوادي
وقد نشأ ذلك من غدرهم وعدم وفائهم ومخادعتهم وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ[الشعراء:227].
الطبقة
الخامسة: وهم الذين كانوا في زمن استيلاء المختار على العراق والبلاد
الأُخر من تلك الأقطار، وكانوا معرضين عن الإمام السجّاد لموافقته المختار،
وينطقون بكلمة محمد بن الحنفية ويعتقدون إمامته، مع أنه لم يكن من أولاد
الرسول صلى الله عليه وسلم
ولم يقم دليل على إمامته
. وهذه الفرقة قد خرجت في آخر الأمر على الدين وحادت عن جادة المسلمين بما قالوا من نبوّة المختار ونزول الوحي إليه.
الطبقة
السادسة: هم الذين حملوا زيداً الشهيد على الخروج، وتعهدوا بنصرته
وإعانته، فلما جدّ الأمر وحان القتال أنكروا إمامته بسبب أنه لم يتبرأ من
الخلفاء الثلاثة، فتركوه في أيدي الأعداء ودخلوا به الكوفة فاستشهد وعاد
رزء الحسين. وكنا بواحد فصرنا باثنين. ولبئس ما صنعوا. ولو فرضنا أنه لم
يكن إماماً أفلم يكن من أولاد الإمام، مع أن من علم صحة نسبه وإن كان من
العصاة يجب على الأمة إعانته ونصرته ولا سيما إذا كان على الحق، ولم يلزمه
من عدم التبري ذنب ولم تلحقه منه نقيصة. وقد نقل الكشي روايات صحيحة عن
الأئمة الأطهار تدل على أن سبّ الخلفاء الثلاثة لا يحتاج إليه في النجاة
ودخول الجنة، وقد كان مظلوماً فإعانة المظلوم واجبة, وفرض عين مع القدرة
عليها.
الطبقة السابعة: هم الذين يدّعون صحة الأئمة والأخذ عنهم، مع أن الأئمة كانوا يُكفرونهم ويكذبونهم.
ولنذكر لك نبذة يسيرة من عقائد أسلافهم حيث أن هذا الكتاب لا يسع ذلك على سبيل الاستقصاء، ولكن ما لا يُدرك كله لا يترك كله.
فنقول: إن منهم من كان يعتقد أن الله تعالى جسم ذو أبعاد ثلاثة كالهشامين وشيطان الطاق والميثمي، ذكر ذلك الكليني في (الكافي).
ومنهم من أثبت له صورة جلّ شأنه كهشام بن الحكم وشيطان الطاق.
ومنهم من اعتقد أن الله تعالى مجوّف من الرأس إلى السرة، ومنها إلى القدم مصمت كهشام بن سالم والميثمي.
ومنهم من اعتقد أن عزّ اسمه لم يكن عالماً في الأزل
كزرارة بن أعين وبكير بن أعين وسليمان الجعفري ومحمد بن مسلم الطحان وغيرهم.
ومنهم
من أثبت له مكاناً وحيزّاً وجهة وهم الأكثرون منهم. ومنهم من كفر بالله
تعالى فلم يعتقد بالصانع القديم ولا بالأنبياء ولا بالبعث والمعاد كديك
الجن الشاعر وغيره.
ومنهم من كان من النصارى ويُعلن ذلك جهاراً ويتزيى
بزيهم، ومع ذلك لم يترك صحبة قومه كزكريا بن إبراهيم النصراني الذي روى عنه
أبو جعفر الطوسي في كتابه (التهذيب).
ومنهم من قال في حقهم جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: يروون عنا الأكاذيب ويفترون علينا أهل البيت كالتبّان المكنى بأحمد.
ومنهم
من حذّر الأئمة منهم ومن نقلة الأخبار ورواة الآثار عن الأئمة العظام. روى
الكليني عن إبراهيم الخراز ومحمد بن الحسين قالا: دخلنا على أبي الحسن
الرضا فقلنا: إن هشام بن سالم والميثمي وصاحب الطاق يقولون: إن الله تعالى
أجوف من الرأس إلى السرّة والباقي مصمت. فخر ساجداً ثم قال: سبحانك، ما
عرفوك ولا وحّدوك، فمن أجل ذلك وصفوك. وقد دعا الإمام على هؤلاء وعلى زرارة
بن أعين فقال: أخزاهم الله.
وروى الكليني أيضاً عن علي بن حمزة قال:
قلت لأبي عبد الله عليه السلام: سمعت هشام بن الحكم يروي عنكم: أن الله جسم
صمدي نوري معرفته ضرورية يمنّ بها على من يشاء من عباده. فقال: سبحان من
لا يعلم أحد كيف هو، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ولا يحدّ ولا يحسّ
ولا يحيط به شيء ولا جسم ولا صورة ولا تخطيط ولا تحديد.
ومنهم من كان
منكراً لموت الإمام الصادق بأنه هو المهدي الموعود به، ويُنكرون إمامة
الأئمة الباقين. وأكثر رواة الإمامية كانوا واقفية كما لا يخفى من راجع
أسماء رجالهم حيث يقولون في مواضع شتى: إن فلاناً كان من الواقفية
.
فهاتان
الفرقتان منكرتان لعدد الأئمة وتعيين أشخاصهم. ومُنكر الإمامة كمُنكر
النبوة كافر. ومع هذا يروي علماء الشيعة عنهم في صحاحهم. ومنهم من لم يعلم
إمام وقته وقضى عمره في التردّد والتحيّر، فدخل في هذا الوعيد "من مات ولم
يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية" كالحسن بن سماعة بن مهران, وابن فضّال
وعمرو بن سعيد وغيرهم من رواة الأخبار.
ومنهم من اخترع الكذب وأصرّ على
ذلك كأبي عمرو بن خرقة البصري. ومنهم من طرده الإمام جعفر الصادق عن مجلسه
ثم لم يُجوّز له مجيئه إليه كابن مسكان.
ومنهم من أقرّ بكذبه كأبي بصير.
ومنهم من كان من البدائية الغالية كدارم بن الحكم, وزياد بن الصلت, وابن
هلال الجهمي, وزرارة بن سالم. ومنهم من كان يكذب بعضهم بعضاً في الرواية
كالهشامين وصاحب الطاق والميثمي.
واعلم أن جميع فرق الشيعة يدّعون أخذ
علومهم من أهل البيت، وتنسب كل فرقة منهم إلى إمام، ويروون عنهم أصول
مذهبهم وفروعه، ومع ذلك يُكذّب بعضهم بعضاً، ويُضلّل أحدهم الآخر مع ما
بينهم من التناقض في الاعتقادات ولاسيما في الإمامة، فذلك أوضح دليل وأقوى
برهان على كذب تلك الفرق كلها، وذلك لأن الروايات المختلفة والأخبار
المتناقضة لا يمكن ورودها من بيت واحد وإلا يلزم كذب بعضهم، وقد قال الله
تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33] وقد علم أيضاً من التواريخ وغيرها أن أهل البيت ولا سيما الأئمة الأطهار من خيار خلق الله تعالى بعد النبيين
وأفضل سائر عباده المخلصين.
والمقتفين
لآثار جدهم سيد المرسلين صلَّى الله عليه وسلَّم، فلا يمكن صدور الكذب
عنهم، فعلم أنهم بريئون مما ترويه عنهم تلك الفرق المضلة بعضهم بعضاً، بل
قد وضعتها كل فرقة من هذه الفرق ترويجاً لمذهبهم، ولذا وقف فيها التخالف.
وأما
الاختلاف الواقع عند أهل السنة فليس كذلك لوجهين: الأول أنه اختلاف
اجتهادي، فإنهم يعلمون من زمن الصحابة إلى زمن الفقهاء الأربعة أن كل عالم
مجتهد، ويجوز للمجتهد العمل برأيه المستنبط من دلائل الشرع فيما ليس فيه
نص. واختلاف الآراء طبيعي لنوع الإنسان، وليس ذلك اختلاف الرواية حتى يدل
على الكذب والافتراء
.
الثاني:
إن اختلافهم كان في فروع الفقه لا في أصول الدين، واختلاف الفروع للاجتهاد
جائز فلا يكون دليلاً لبطلان المذهب، وذلك كاختلاف المجتهدين من الإمامية
في المسائل الفقهية كطهارة الخمر ونجاسته وتجويز الوضوء بماء الورد وعدمه.
ولننبهك
على كيفية أخذ الشيعة العلم من أهل البيت، فاعلم أن الغلاة – وهم أقدم من
جميع الفرق الشيعية وأضلهم – قد أخذوا مذهبهم عن عبد الله بن سبأ حيث موّه
عليهم قصداً لإضلالهم أنه أخذ ذلك عن الأمير رضي الله عنه، وزعمت المختارية
والكيسانية
أنهم قد أخذوه عن الأمير والحسنين وعن محمد بن علي وعن أبي هاشم ابنه، والزيدية
عن الأمير والحسنين وزين العابدين وزيد بن علي ويحيى بن زيد، والباقرية
عن خمسة, أعني الأمير إلى الباقر، والناووسية
عن هؤلاء الخمسة والإمام الصادق، والمباركية
عن هؤلاء الستة وإسماعيل بن جعفر.
والقرامطة
عن هؤلاء السبعة ومحمد بن إسماعيل، والشميطية
عن هؤلاء الثمانية ومحمد بن جعفر وموسى وعبد الله و إسحاق أبناء جعفر.
والمهدوية
عن اثنين وعشرين، وهم كانوا يعتقدون أن جميع سلاطين مصر والمغرب الذين
خلوا من نسل محمد الملقب بالمهدي أئمة معصومون، ويزعمون أن العلم المحيط
بجميع الأشياء كان حاصلاً لهم، وهؤلاء السلاطين أيضاً كانوا يدّعون ذلك كما
تشهد لذلك تواريخ مصر والمغرب.
والنـزارية عن ثمانية عشر أولهم أمير
المؤمنين وآخرهم المستنصر بالله، والإمامية الاثنا عشرية عن اثني عشر أولهم
الأمير وآخرهم الإمام محمد المهدي.
ولا حدّ لعلمائهم في الكثرة،
وقدماؤهم المشاهير: سليم بن قيس الهلالي، وأبان بن تغلب، وهشام بن سالم،
وصاحب الطاق، وأبو الأحوص داود بن أسد، وعلي بن منصور، وعلي بن جعفر، وبيان
بن سمعان المُكنّى بأبي أحمد المشهور بالجزري، وابن أبي عمير محمد بن زياد
الأزدي، وعبد الله بن المغيرة البجلي، والنصري واسمه الحارث بن المغيرة،
وأبو بصير، ومحمد بن حكيم، ومحمد بن فرج الرخجي، وإبراهيم بن سليمان
الخزاز، ومحمد بن الحسين، وسليمان بن جعفر الجعفري، ومحمد بن مسلم الطحان،
وبكير بن أعين، وزارة بن أعين وأبناؤهما، وسماعة بن مهران الحضرمي، وعلي بن
أبي حمزة البطائني، وعيسى وعثمان وعلي وهؤلاء الثلاثة بنو فضّال، وأحمد بن
محمد بن أبي نصر البزنطي، ويونس بن عبد الرحمن القمي، وأيوب بن نوح
النخعي، وحسن بن العباس بن الحريش الرازي، وأحمد بن إسحاق، وجابر الجعفي،
ومحمد بن جمهور العمي، والحسين بن سعيد الأهوازي، وعبد الله وعبيد الله
ومحمد وعمران وعبد الأعلى كلهم بنو علي بن أبي شعبة وأولادهم وجدّهم.
وأما
المصنفون من الاثني عشرية فصاحب (معالم الأصول) فخر المحققين محمد بن
الحسن ابن مطهر الحلّي، ومحمد بن علي الطرازي، ومحمد بن عمر الجعابي، وأبو
الفتح محمد بن علي الكراجكي، وإبراهيم بن علي الكفعمي
وجلال الدين حسن بن أحمد شيخ الشيخ المقتول، ومحمد بن الحسن الصفار
وأمان
بن بشر البغال، وعبيد بن عبد الرحمن الخشعي، وفضل بن شاذان القمي، ومحمد
بن يعقوب الكليني الرازي، وعلي بن الحسين بن بابويه القمي، والحسين ابنه
أيضاً، وعبيد الله بن علي الحلبي، وعلي بن مهزيار الأهوازي، وسلار: حمزة بن
عبد العزيز الديلمي الطبرستاني، وعلي بن إبراهيم بن هاشم القمي
وابن
براج: عبد العزيز بن نحرير وابن زهرة: حمزة بن علي، وابن إدريس المفتري
على الشافعي المشهور، والذي جرّأه على ذلك مشاركته له الكُنية، ومعين الدين
المصري، وابن جنيد، وحمزة أبو الصلاح، وابن المشرعة الواسطي، وابن عقيل،
والغضائري، والكشي, والنجاشي, والملا حيدر العاملي, والبرقي, ومحمد بن جرير
الطبري الآملي, وابن هشام الديلمي, ورجب بن محمد بن رجب البرسي
.
واعلم
أن جميع فنونهم من الكلام والعقائد والتفسير مستمدة من كتب غيرهم،
والمعتمد من كتب أخبارهم الأصول الأربعة: أحدها (الكافي) المشهور بالكليني،
وثانيها (من لا يحضره الفقيه) وثالثها (التهذيب) ورابعها (الاستبصار).
وصرح
علماؤهم بأن العمل بكل ما في هذه الأربعة واجب، وكذلك صرحوا بأن العمل
برواية الإمامي الذي يكون دونه أصحاب الأخبار أيضاً واجب بهذا الشرط كما نص
على ذلك أبو جعفر الطوسي والمرتضى وفخر الدين الملقب بالمحقق الحلي، مع
أنه يوجد في تلك الكتب الأربعة من رواية المجسمة كالهشامين وصاحب الطاق،
ورواية من اعتقد أن الله تعالى لم يكن عالماً في الأزل كزرارة وأمثاله
كالأحولين، وسليمان الجعفري، ورواية من كان فاسد المذهب ولم يكن معتقداً
بإمام أصلاً كبني فضّال وابن مهران وغيرهم، ورواية بعض الوضاعين الذين لم
يخف حالهم على الشيعة كجعفر الأودي وابن عياش (أحمد بن محمد الجوهري) وكتاب
(الكافي) مملوء من رواية ابن عياش، وهو بإجماع هذه الفرقة كان وضّاعاً
كذّاباً.
والعجيب من المرتضى
مع علمه بهذه الأمور كان يقول: إن أخبار فرقتنا وصلت إلى حد التواتر.
وأعجب
من ذلك أن جمعاً من ثقاتهم رووا وحكموا عليه بالصحة، وآخرين كذلك حكموا
عليه بأنه موضوع مفترى، وهذه الأخبار كلها في صحاحهم، كما أن ابن بابويه
حكم بوضع ما روي في تحريف القرآن وآياته، ومع ذلك فتلك الروايات ثابتة في
(الكافي) بأسانيد صحيحة بزعمهم، إلى غير ذلك من المفاسد، والله سبحانه
يحقُّ الحقّ وهو يهدي السبيل.