لم يوجد لعلماء الفرق قانون يسيرون عليه في عدّهم للفرق الإسلامية، بل
سلكوا طرقا عديدة، كل واحد منهم يعدها حسب اجتهاده، وما وصل إليه علمه.
وفي هذا يقول الشهر ستاني – رحمه الله-: اعلم أن لأصحاب المقالات طرقاً في تعديد الفرق الإسلامية، لا على قانون مستند إلى أصل ونص.
ثم
قال: فما وجدت مصنّفين منهم متفقين على منهاج واحد في تعديد الفرق، ومن
المعلوم الذي لا مراء فيه أنه ليس كل من تميز عن غيره- بمقالة ما في مسألة
ما –عُدّ صاحب مقالة، وإلا فتكاد تخرج المقالات عن حد الحصر والعد.
وقال
أيضاً: وما وجدت لأحد من أرباب المقالات عناية بتقرير هذا الضابط إلا أنهم
استرسلوا في إيراد مذاهب الأمة كيف ما اتفق، وعلى الوجه الذي وجد، لا على
قانون مستقر وأصل مستمر
.
والواقع
أننا نجد مصداق كلام الشهرستاني عند تتبع العلماء للفرق، وأقرب مثال لذلك
أنك تجد أمهات الفرق عند الأشعري عشر أصناف، وعند الشهرستاني نفسه أربع
فرق، وعند غيرهما ثمان فرق، وعند آخرين ثلاثاً، وبعضهم يجعلها خمساً، إلى
غير ذلك مما يوحي بعدم وجود قانون لعدّ الفرق مستقلة أو تابعة لغيرها؛ إذا
كان هَمُّ الأولين فيما يبدو تسجيل ما يجدون من آراء فردية كانت أو جماعية.
ولعل
بعض هؤلاء العلماء اختلط عليه الأمر فيمن يستحق أن يطلق عليه أنه من أهل
ملة الإسلام فيعتبر خلافه، أو لا يعتبره من المسلمين فلا يذكر خلافه، وهذه
المسألة تحتاج إلى إيضاح نوجز ما ذكره البغدادي عنها فيما يلي:
اختلف المنتسبون إلى الإسلام في الذين يدخلون بالاسم العام في ملة الإسلام، وحاصل الأقوال في هذه المسألة كما يلي:
1- أن هذه التسمية تشمل كل مقر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأن كل ما جاء به حق، كائناً قوله بعد ذلك ما كان.
وهذا قول زعيم طائفة الكعبية من المعتزلة أبي القاسم الكعبي.
2- أنها تشمل كل من يرى وجوب الصلاة إلى جهة الكعبة.
3- أنها تشمل كل من أقر بالشهادتين ظاهراً ولو كان مضمراً للنفاق والكفر.
والواقع:
أن تلك الأقوال لا تخلو من إيراد عليها وانتقاد لها، فقول الكعبي الأول،
وقول مجسمة خراسان الأخير ينقضه ما وقع من يهود أصبهان من إقرارهم بنبوة
محمد صلى الله عليه وسلم إلى العرب خاصة لا إلى بني إسرائيل، وكذا قال قوم
من موشكانية اليهود- نسبة إلى زعيمهم موشكان- فإنهم أقروا بجميع شرائع
الإسلام، ونفوا أن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم نبي إلى كافة البشر،
بما فيهم اليهود.
ومع ذلك فإنهم ليسوا بمسلمين، ولا تعتبر أقوالهم ضمن أقوال الفرق الإسلامية
.
والصحيح
في هذا كله أنه لا يدخل في الإسلام إلا من أقر به ظاهراً وباطناً، والتزم
بالإيمان بالشريعة الإسلامية، ثم إذا كان له بعض البدع فإنه ينزل من
الإسلام حسب قربه أو بعده عنه، ويعامل على هذا الأساس، ويحترز من تكفير شخص
بعينه إلا إذا ظهر كفره من قوله أو فعله أو اعتقاده بعد إقامة الحجة عليه.
طريقة بيان الفرق وتعدادها طريقة لا تخلو من التكلف، لأن الأمة لم تنته
عند تاريخ كتابة مصنف معين, ومن المصنفين للفِرق الذين حاولوا تعدادها: ابن
الجوزي الذي قسم الفرق إلى ستة أصول تندرج تحتها الفروع فقال: فإن قيل وهل
هذه الفرق معروفة؟ فالجواب: إنا نعرف الافتراق وأصول الفرق، وأن كل طائفة
من الفرق قد انقسمت إلى فرق، وإن لم نحط بأسماء تلك الفرق ومذاهبها وقد ظهر
لنا من أصول الفرق: الحرورية والقدرية والجهمية والمرجئة والرافضة
والجبرية. وقد قال بعض أهل العلم: أصل الفرق الضالة هذه الفرق الست، وقد
انقسمت كل فرقة منها على اثنتي عشرة فرقة فصارت اثنتين وسبعين فرقة
.
وكذا فعل الإسفراييني في (التبصير) والبغدادي في (الفرق بين الفرق) وعباس
بن منصور السكسكي في مصنفه: (البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان)...
إن
محاولة تعداد الفرق وحصرها في العدد المذكور الوارد في الحديث يعد تكلفاً
من أولئك المصنفين لأن الأمة الإسلامية لم تنته عند تاريخ كتابة أي مصنف من
تلك المصنفات، ولم يكن المصنفون على علم بما سيجد بعدهم من فرق كالصوفية
مثلاً بطرقها المتشعبة حتى بلغت في مصر ستاً وستين طريقة رسمية
. كما أننا نلاحظ الاختلاف بين هؤلاء في الفرق التي يملؤون بها العدد المذكور.
أما
الحديث الوارد في افتراق الأمة، فلا خلاف على صحته، وإنما وقع الخلاف في
الزيادة الواردة في حديث معاوية رضي الله عنه وإليك نصهما:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة))
وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أنه قام فقال: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال: ((ألا
إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الملة
ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي
الجماعة))
وقد
استشكل البعض هذه الزيادة، مع أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأمم
وأن المرجو أن يكونوا نصف أهل الجنة مع أنهم في سائر الأمم كالشعرة البيضاء
في الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض حسبما صرحت به
الأحاديث فكيف يتمشى هذا؟
لقد أجاب العلماء على هذا الإشكال ومنهم المحقق اليمني: صالح المقبلي
حيث
ذكر أن البعض ضعَّف حديث افتراق الأمة بسبب الزيادة المشار عليها وتضعيفه
لم يكن من جهة السند، وإنما من قبل استشكال معناه فقال: إن عامة المسلمين
أكثرهم على رأي أهل السنة والجماعة، ولا يعرفون الآراء المبتدعة.
أما الخاصة فمنهم مبتدع يدعو إلى البدعة، وله أتباع ينصرون رأيه ويتوسعون فيه.
وهناك فئة من الناس يوافقونهم على البدعة في الظاهر، وإن كانوا في داخل أنفسهم يؤمنون بالحق.
وتوجد
طائفة أخرى ليسوا من العلماء المحققين ولكنهم عرفوا أشياء من البدعة
وحفظوا كثيرا من غثاء المذاهب والآراء وهم يخلطون الحق بالباطل، فهؤلاء
ليسوا مثل الخاصة من العلماء ولم يدركوا سلامة العامة.
ثم قال: فالقسم الأول من الخاصة مبتدعة قطعاً.
والثاني: ظاهره الابتداع.
والثالث: له حكم الابتداع.
ثم
قال: إن من الخاصة قسم رابع هم المتابعون للكتاب والسنة والواقفون عند
حدودهما فهؤلاء هم السنية حقاً وهم الفرقة الناجية وإليهم العامة بأسرهم،
ومن شاء ربك من أقسام الخاصة الثلاثة المذكورين بحسب علمه بقدر بدعتهم
ونياتهم.
إذا حققت جميع ما ذكرنا لك لم يلزمك السؤال المحذور، وهو
الهلاك على معظم الأمة، لأن الأكثر عددا هم العامة قديما وحديثاً وكذا
الخاصة في الأعصار المتقدمة، ولعل القسمين الأوسطين وكذا من خفت بدعته من
الأول تنقذهم رحمة ربك من النظام في سلك الابتداع بحسب المجازاة الأخروية.
ورحمة ربك أوسع لكل مسلم، لكنا تكلمنا على مقتضى الحديث ومصداقه وأن أفراد
الفرق المبتدعة وإن كثرت الفرق فلعله لا يكون مجموع أفرادهم جزءاً من ألف
جزء من سائر المسلمين
.
قلت:
وبهذه الإجابة يزول الإشكال، وعلى المسلم أن يكون حريصاً في التماس طريق
الرسول صلى الله عليه وسلم وأن يحذر من دعاة الضلال وأرباب الفرق والطرق
والجماعة المتحزبة التي اختارت ضيق الطريقة على سعة الإسلام، فدين الله
عالمي لا طائفي ولا حزبي ولا طرقي.
وهذه الجماعات والطرق والأحزاب ضررها على المسلمين أكثر من نفعها، وقد حذر العلماء من الولوج فيها قديماً وحديثاً.
قال
الإمام ابن حزم: واعلموا رحمكم الله أن جميع فرق الضلالة لم يجر الله على
أيديهم خيراً، ولا فتح بهم من بلاد الكفر قرية، ولا رفع للإسلام راية، وما
زالوا يسعون في قلب نظام المسلمين، ويفرقون كلمة المؤمنين، ويسلون السيف
على أهل الدين، ويسعون في الأرض مفسدين.
ثم ختم تحذيره بنصيحة المسلمين
فقال: فالله الله أيها المسلمون تحفظوا بدينكم... الزموا القرآن وسنن رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وما مضى عليه الصحابة رضي الله عنهم، والتابعون
وأصحاب الحديث عصراً عصراً الذين طلبوا الأثر فلزموا الأثر، ودعوا كل محدثة
فكل محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة وكل ضلالة في النار
.
وقال
الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد ناصحاً طالب العلم، ومحذراً من الدخول في
الحزبية: فيا طالب العلم! بارك الله فيك وفي علمك؛ اطلب العلم، واطلب
العمل، وادع إلى الله تعالى على طريقة السلف.
ولا تكن خرّاجاً ولاجاً في
الجماعات، فتخرج من السعة إلى القوالب الضيقة، فالإسلام كله لك جادة
ومنهجاً، والمسلمون جميعهم هم الجماعة، وإن يد الله مع الجماعة، فلا طائفية
ولا حزبية في الإسلام. وأعيذك بالله أن تتصدع، فتكون نهاباً بين الفرق
والطوائف والمذاهب الباطلة والأحزاب الغالية، تعقد سلطان الولاء والبراء
عليها.
فكن طالب علم على الجادة؛ تقفو الأثر، وتتبع السنن، تدعو إلى الله على بصيرة، عارفاً لأهل الفضل فضلهم وسابقتهم.
وإن
الحزبية ذات المسارات والقوالب المستحدثة التي لم يعهدها السلف من أعظم
العوائق عن العلم، والتفريق عن الجماعة، فكم أوهنت حبل الاتحاد الإسلامي،
وغشيت المسلمين بسببها الغواشي.
فاحذر رحمك الله أحزاباً وطوائف طاف
طائفها، ونجم بالشر ناجمها، فما هي إلا كالميازيب؛ تجمع الماء كدراً،
وتفرقه هدراً؛ إلا من رحمه ربك، فصار على مثل ما كان عليه النبي صلى الله
عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم
.