هذه مواقف مختارة من
غزوة الأحزاب.
ليس المطلوب لها الاستقصاء التاريخي، ذلك أن سير الحوادث التاريخية متوفر
في مظانه من كتب التاريخ والسير والمغازي، وإنما هي محاولة لقراءة معاصرة
لبعض قضايا هذه الغزوة من خلال المعاناة التي يعيشها الجيل المسلم اليوم؛
مساهمةً منا في تصويب المسار، والسعي وراء تأصيل بعض المفهومات التي كادت
تغيب عن حياة المسلمين، أو تستغلق على شكل معين يمكن أن يُكتشف بعض خطئه
بإعادة المقايسة والمقارنة.
والمسلم مطالب دائمًا بعملية المراجعة
وعملية المقايسة؛ خشية أن يكون من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في
الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، فيضيع الأجر ويتبدد العمر،
ويتخلف النصر في الدنيا، ونصاب بالعجز والانكسار، وقد لا نجد مهربًا من ذلك
إلا بإلقاء التبعة على الخارج، على الآخرين: الاستعمار وأعوان الاستعمار؛
لنعفي أنفسنا من المسئولية، ونحول دون ممارسة التصويب أو القدرة عليه. وقد
ينسحب بعضنا من المجتمع لعدم القدرة على التعامل معه، ينسحب إلى الماضي،
يفاخر فيه، ويطرب لإنجازاته، ولا يستطيع الاغتراف منه وإخصاب تصوره والعودة
إلى مجتمعه بما يصلحه ويسدد خطاه، بل يكتفي بترديد شعارات لا تفسر ظاهرة
اجتماعية وتدرس أسبابها، ولا تبدل موقعًا إسلاميًّا إلى موقع آخر أكثر جدوى
وفائدة للإسلام والمسلمين، ولا تستبدل وسيلة فاعلة بأخرى متخلفة..
والذي
لا بد لنا من الاعتراف به ابتداءً أن السيرة النبوية في حياة الناس -إلا
من رحم الله- لا تعدو أن تكون فترة زمنية أو حلقة تاريخية انتهت بأشخاصها
وأحداثها، غير قادرة على تقديم الأطر والقواعد لمشكلات الإنسان المعاصر،
سواء في ذلك من يتنكر بقوله وعمله، أم من يسلك مسلكًا آخر ممن ينتصر لها
عاطفيًّا ويبقى عاجزًا عن تحقيق النقلة، وتعدية الرؤية، وحسن البصارة
لمواطن الخطأ والصواب؛ تبقى النتيجة واحدة، ولا يختلف الفريقان إلاّ
بالعناوين، وقد يكون أحد الفريقين سقط في مخادعة نفسه ومخادعة الناس، وكان
موقفه العاجز دليل فشل مقولته، وجاء واقعه مخالفًا لشعاراته؛ لذلك فهو
يساهم مساهمة سلبية في إجهاض الرؤية الإسلامية، ويكون حاجزًا سميكًا بين
الناس وبين هذا الإسلام العظيم.
وقد لا يكون المطلوب من مسلم اليوم
أن يكون قادرًا من خلال رصيده التاريخي وتراثه الثقافي وقيمه الأصلية في
الكتاب والسنة، قد لا يكون المطلوب منه فقط القدرة على(التفسير) للحوادث
المعاصرة، وإنما تجاوز ذلك إلى (التغيير) ودقة تحديد موقعه الفاعل؛ لأن
(التفسير) هنا هو مقدمة لـ(التغيير) وكفاية لمسلمي اليوم الوقوف عند عتبة
المقدمات وعدم تجاوزها إلى النتائج.. فهل نستطيع في هذه العجالة إثارة
الذهن المسلم تجاه بعض المواقع والمرتكزات التي لا نزال نشهد آثارها، ولا
تزال تتكرر في عالم المسلمين من خلال بعض المواقف التي نعرض لها في غزوة
الأحزاب؟
يهود وراء تحزيب الأحزاب
المعلوم من أخبار
غزوة الأحزاب أنها على بعض الروايات كانت في ذي القعدة، ولكن معظم الروايات تعتمد زمن
حدوثها شهر شوال، وقد امتد الحصار فيها شهرًا تقريبًا، فقد تكون ابتدأت في
شهر شوال ولما تنتهِ إلا في ذي القعدة من السنة الخامسة للهجرة، وذلك أن
يهود بني النضير خرجوا حتى قدموا قريشًا في مكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنَّا سنكون معكم حتى نستأصله.
فقالت لهم قريش -التي جربت الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في
بدر و
أحد واكتوت بنارها-: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول، والعلم بما أصبحنا
نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟! قالوا: بل دينكم خير من دينه،
وأنتم أولى بالحق منه. وشهدوا لقريش أن أصنامها أولى بالاتباع من إله محمد
صلى الله عليه وسلم، فهم الذين أنزل الله فيهم: {أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ
بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ
أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [النساء: 51].
فسَرَّ
ذلك قريشًا، ونشطوا لما دعوهم إليه، واجتمعوا لذلك واتّعدوا له، ثم خرج
يهود حتى جاءوا غطفان، وهكذا طافوا على بقية القبائل عارضين عليها مشروع
غزو المدينة المنورة وموافقة قريش على ذلك.
وهذه ليست حادثة تاريخية
عابرة، خاصة في هذا العصر بعد أن أصبحت الشعوب تحاكم إلى تاريخها، ولم يعد
سرًّا أن يهود كانوا ولا يزالون وراء تحزيب الأحزاب في معظم المراحل،
ابتداء من الحملات الصليبية على عالم المسلمين، ذلك أن
اليهود ركبوا الحصان الأوربي بشكل مبكر حيث استقرت هجراتهم في أوربا تاريخيًّا، ووجهوه الوجهة التي يريدون.. فكانت
الحروب الصليبية وكان الاستعمار، ويركبون وليده الأمريكي الآن والنتائج ماثلة للعيان.
كما
أنه لم يعد سرًّا أنهم كانوا وراء تقويض الخلافة الإسلامية، وصناعة
"الأحزاب" ذات الدعوات الإقليمية وتقديم البدائل الفكرية عن الإسلام بعد
مرحلة سقوط الخلافة، والشهادة لهذه البدائل أنها أهدى من الإسلام سبيلاً.
كما أنهم وراء تحزيب بعض الكُتَّاب الذين انتهوا إلى مناخ الثقافة اليهودية
التلمودية، ولا همَّ لهم إلا الانتقاص من الإسلام والمسلمين، وتسقط
العورات وتتبعها والتخصص فيها، والقدرة العجيبة على البجاحة في الكلام عن
الحرية والديمقراطية، وهم من سدنة الظلم والظالمين، في الوقت الذي يدفع
المسلمون دماءهم في أكثر من موقع؛ دفاعًا عن الإنسان وانتقاص حقوق الإنسان،
لكنه العوار العقلي!!
لقد تم التحالف الوثني اليهودي القبلي ضد
المسلمين، كانت يهود وقريش وغطفان من أهم أعضائه، واتقوا على شروط، من
أهمها: أن تشارك غطفان بستة آلاف مقاتل، وأن يدفع اليهود لها كل ثمار خيبر
لسنة واحدة؛ وحشدت قريش أربعة آلاف مقاتل فكانوا عشرة آلاف.. إن هذا
التحالف لم يتوقف لحظة واحدة في تاريخ المسلمين الطويل، وإن تغيرت أسماؤه
وتبدلت وسائله.. والمال اليهودي يمده على أكثر من مستوى..
إن المال اليهودي الذي اشترى غطفان وحرَّكها صوب المدينة هو الذي امتد إلى
السلطان عبد الحميد، فلما أَبَى ذلك تقدَّم المال اليهودي لشراء رجال جمعية الاتحاد والترقي، الذين كانوا الجسر الحقيقي لوصول يهود إلى
فلسطين،
وإن التحالف الوثني الصليبي اليهودي الجديد هو الذي تقاسم مناطق النفوذ،
واقتسم تركة الرجل المريض، وفرَّق عالم المسلمين، وأسكن يهود في فلسطين!
لقد أسقط الحلفاء في الحرب العالمية كل وعودهم للعرب، والتزموا بكل وعودهم
ليهود، ولا يزال العالم الإسلامي يعاني من مسألة (الشرق الأوسط) أو
(المسألة الشرقية).. ولا يزال يعاني من لعبة الوفاق الدولي في فلسطين
وإريتريا وأوجادين وكشمير وأفغانستان ولبنان وغيرها.. ويراد للمسلمين أن
يكونوا في ذلك أدوات، تُوظف دماؤهم في عملية الوفاق الدولي، ولا يسمح
لحركاتهم الجهادية أن تتجاوز المدى المرسوم لها مسبقًا والحجم المقرر لها
سلفًا.
تأصيل الشورى
لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
بزحف الأحزاب إلى المدينة، وعزمها على استئصال شأفة المسلمين، استشار
المسلمين، وقرروا بعد الشورى: التحصن في المدينة والدفاع عنها، وأشار سلمان
الفارسي -رضي الله عنه- بحفر الخندق، وقال: يا رسول الله، إنَّا بأرض
فارس، إذا تخوفنا الخيل خندقنا علينا. فأمر بحفر الخندق، واستمر الحصار نحو
شهر تقريبًا، وعظم البلاء، وانخلعت القلوب وشاع النفاق، وظُنَّ بالله كل
ظن، وبلغت القلوب الحناجر، ونكتفي هنا بمثال واحد: قال بعض المنافقين (معتب
بن قشير): كان محمد يعدنا بكنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على
نفسه أن يذهب إلى الغائط.
وقال (أوس بن قيظي) على ملأ من رجال قومه:
يا رسول الله، إن بيوتنا عورة، وليس دار من دور الأنصار مثل دارنا، ليس
بيننا وبين غطفان أحد يردهم عنَّا، فأذن لنا فلنرجع إلى دورنا.
فلما
اشتد البلاء على الناس، وحقنًا لدماء المسلمين، بعث رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى عيينة بن حصن، وإلى الحارث بن عوف المري -قائدي غطفان-
يعطيهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، وأحضرت
الصحيفة والدواة ليكتب عثمان بن عفان -رضي الله عنه- الصلح، وهموا بكتابته،
ولم تقع الشهادة ولا عزيمته إلا المراوضة في ذلك، فلما أراد رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن يفعل بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فذكر ذلك
لهما، واستشارهما فيه، فقالا له: يا رسول الله، أمر تحبه فنصنعه، أم شيء
أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم شيء تصنعه لنا؟ قال: "بل
شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس
واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما".
فقال
له سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله
وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها
ثمرة إلا قِرى أو بيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له، وأعزنا بك
وبه نعطهم أموالنا؟! والله ما لنا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى
يحكم الله بيننا وبينهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأنت وذلك". فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا.
إن ما يلمحه الإنسان في هذه الغزوة وفي غيرها من حوادث السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنزل
الشورى منزلتها، وأصّلها في حياة الأمة؛ إذ لا بد من توسيع قاعدة الرأي، والحاجة
إليها إنما تكون خاصة في الشدائد والقرارات المصيرية والملمات على غاية من
الأهمية، حيث يكون الخطأ قاتلاً. فالشورى استفادة من كل الخبرات والتجارب،
واجتماع للعقول في عقل، وقضاء على الاستبداد والفردية في الرأي، وبناء
يساهم الجميع في إقامته، ومن ثَمَّ تكون أعلى أنواع التضحية والبذل في
الدفاع عنه.
والرسول صلى الله عليه وسلم مستغنٍ عن الشورى بالوحي،
فهو المؤيد بالوحي، وهو المسدد به، لا حاجة به إلى الشورى، لكن لا بد من
تأصيلها لتكون أصلاً من أصول الحكم لا يملك المجتمع المسلم أن يحيد عنها،
كما لا يملك الحاكم المسلم أن يتجاهلها أو يعتدي عليها، ويقظة المسلم دائمة
في العمل لها وعدم التنازل عنها؛ لأن ذلك -إلى جانب كل مضاره في الدنيا-
مدعاة لسخط الله الذي جعلها من سمات مجتمع المسلمين بقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].
ومع
ذلك لا يزال في عالم المسلمين اليوم من يستهويه الاستبداد، ويتصيد الوقائع
التاريخية، ويجهد نفسه في تفسير النصوص ليخرج على المسلمين بأن الشورى
ليست ملزمة للحاكم، وإنما هي معلمة له فقط، وأن الحاكم بالخيار إن شاء عمل
بها وإن شاء تركها، وأُعطي الحاكم في الدولة وأُعطي المسئول عن أية جماعة
مسلمة من العصمة ما لم يعطه النبي المرسل صلى الله عليه وسلم عندما سأله
سعد بن معاذ وسعد بن عبادة: شيء أمرك الله به لا بدَّ لنا من العمل به، أم
شيء تصنعه لنا؟
وإذا كانت إلزامية الشورى أو إعلاميتها اجتهادًا يمكن
أن يخطئ ويصيب، كما هو الحال في سائر الاجتهادات، فما هو المسوّغ
للاستمساك بعدم إلزامية الشورى والدفاع عن ذلك بعد هذه الانهيارات الرعيبة
وألوان الاستبداد في عالم المسلمين، وهذا التردي والتصرف الفردي في بعض
الجماعات التي تعمل للإسلام؟!
البيعة العامة
وهناك قضية أخرى
تشكل الوجه الآخر لاجتهاد واعتقاد أن الشورى معلمة وليست ملزمة، وهي قضية
مهمَّة مطلوب إعادة النظر فيها بإلحاح، وهي قضية البيعة العامة، وما يترتب
عليها من أحكام شرعية وقضايا سلوكية، وكيف أن البيعة العامة في الشريعة
الإسلامية لا يمكن أن تكون إلاّ لأمير المؤمنين الذي يمتلك من الصلاحية
والمسئولية ما يجعله قادرًا على إقامة الدين وإنفاذ الأحكام، وتنفيذ
العقوبات الشرعية، وإعلان الحرب، والجنوح إلى السلم... وما إلى ذلك مما هو
مختص بأمير المؤمنين في التصور الإسلامي، وأن كل الزواجر التي وردت في شق
عصا الطاعة ومفارقة الجماعة وما إلى ذلك هي في هذا المجال.
أما البيعة الخاصة فهي عهد على تنفيذ مهمة معينة من خلال الظروف المتاحة والإمكانات المتوفرة، كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثة فأمّروا أحدكم"؛
لتنظيم الحياة الاجتماعية، ولضبط السلوك في البنية الاجتماعية كائنة ما
كانت، وبالتالي فلا يكمن لنا أن نجير أحكام البيعة العامة الفقهية لبعض
مسئولي الجمعيات والجماعات؛ لأن المقومات الأصلية مفقودة، فهو ليس أمير
المؤمنين، ولا يمتلك من ذلك شيئًا، فكيف والأحكام ثمرة لذلك، فنفتقد الأصل
ونستمسك بالفرع؟! لذلك لا بد من التحري في ذلك لأنه محل نظر من الناحية
الشرعية، وقد سبَّب الكثير من الارتكاسات من ناحية السلوك العملي.
فالشورى
ليست ملزمة! والبيعة عامة! والمقومات مفقودة، والنتائج كما نرى، فكيف يجوز
أن يستعملا سيفًا مسلطًا على رقبة الفرد يحولان دون مناقشة الخطأ تحت
عنوان: (في عنقه بيعة، والشورى غير ملزمة)!!
تحديد الموقع الفاعل
وبينما
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما كان من الشدة والبلاء من
الخارج، وشكوك المنافقين وإشاعتهم الرعب في النفوس من داخل الصف: {حَتَّى
إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ
نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ
الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110].
وقد بلغت المحنة غايتها، جاء
نعيم بن مسعود الأشجعي الغطفاني، فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنت فينا رجل واحد، فخذِّل عنا إن استطعت؛ فإن الحرب خدعة".
فأتى بني قريظة فقال: قد عرفتم ودِّي إيّاكم، لا تقاتلوا محمدًا مع قريش
وغطفان حتى تأخذوا منهم رُهُنًا، فإنهم إن لم يصيبوا نهزة لحقوا ببلادهم،
وخلُّوا بينكم وبينه ببلدكم، ولا طاقة لكم به. قالوا: صدقت.
فأتى
قريشًا فأظهر لهم إخلاصه ونصحه، وأخبرهم بأن يهود قد ندموا على ما فعلوا،
وسيطلبون منهم رجالاً من أشرافهم تأمينًا للعهد، وسيسلمونهم إلى النبي صلى
الله عليه وسلم فيضرب أعناقهم.. وقال لغطفان مثل ما قال لقريش، فكان كلا
الطرفين على حذر، وطلب أبو سفيان ورءوس غطفان معركة حاسمة بينهم وبين
المسلمين، فتكاسل اليهود وطلبوا منهم رهائن من رجالهم، فتحقق لقريش وغطفان
صدق حديث نعيم، وامتنعوا عن تحقيق مطلب يهود، وبذلك تحقق اليهود من صدق
نعيم كذلك.. وتوغرت صدورهم على يهود، ودبَّت الفرقة بين الأحزاب.. وهكذا
تمزق الشمل، وتفرقت الكلمة، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا.
هنا لا بد من وقفة، وإن كانت هذه الوقفة مهما كانت طويلة لا تعطي قضية نعيم حقها: (إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت؛ فإن الحرب خدعة).
لقد وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم على الجادة، وأحسن نعيم السير.. أسلمت
ولم يعلم قومي بإسلامي، فمرني بما ترى.. أية قدرة هذه في تحقيق الموقع
الفاعل للعمل الإسلامي من القائد! وأية قدرة على التصرف وحسن التحرك من
خلال الظروف والإمكانات من المسلم! لم يعلم أحد بإسلامي - الحرب خدعة..
إن
القدرة على التصرف من خلال الظروف المتاحة والإمكانات المتوفرة، وتحديد
موقع العمل الفاعل بدقة، واختيار وسيلته المجدية - هي مشكلة العمل الإسلامي
اليوم..
إن السلوك النبوي في مرحلة الدعوة والإنجاز النبوي في مرحلة الدولة يمدنا برؤية زاخرة تبتدئ عتبتها من قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 110] في مرحلة الدعوة، واشتداد الظلم، وفضل الصبر، وتنتهي إلى قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39].
إنها
القدرة كل القدرة على تحديد مواقع العمل من خلال هذه السلسلة الطويلة من
الآفاق المتعددة.. ولعل العجز عن الرؤية هنا يأتي قاتلاً، فقد نحنِّط
أنفسنا أو يحنطنا أعداء الإسلام في "موقع" لا نستطيع أن نبصر غيره -وقد
نتجاوز المواقع الممكنة والمجدية، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، إلى
المواقع المستحيلة فنكلف أنفسنا بما لم يكلفنا الله به- ونرتاد مواقع لا
نملك إمكاناتها، الأمر الذي يوقعنا في الإحباط والانكسار، وقد يلجئنا إلى
محاضن مرفوضة شرعًا تحت شعار: (الضرورات تبيح المحظورات)..
إنها
الضرورات التي صنعناها بأيدينا، لتأتي النتائج المترتبة عليها أشبه بمسلمات
تحكم العمل الإسلامي لا تجوز مناقشتها. والله المستعان على كل حال.