تمهيد
وردت عن السلف الكرام أقوال كثيرة في الحث على التمسك بكتاب الله
تعالى وأن الهدى والخير والفلاح كله في ذلك وأنه يجب على كل المسلمين
الرجوع إلى كتاب الله والتمسك به في كل أحوالهم واختلافاتهم كما قال الله
سبحانه وتعالى: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59].
وهذا
هو منهج كل من جاء بعد السلف الكرام من التابعين ومن تبعهم من علماء
المسلمين وعامتهم وفي كتب شيخ الإسلام رحمه الله وتلميذه ابن القيم وغيرهما
كالطبري وابن كثير وأهل الحديث كالشيخين وغيرهما ممن تزخر بأقوالهم
المكتبات الإسلامية في كتبهم من الأقوال والشروحات ما لا مزيد عليه في وجوب
التمسك بكتاب الله والعمل به والرجوع إليه.
وعلى هذا "فقد اتفق
المسلمون سلفهم وخلفهم من عصر الصحابة إلى عصرنا هذا أن الواجب عند
الاختلاف في أي أمر من أمور الدين بين الأئمة والمجتهدين هو الرد إلى كتاب
الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام الناطق بذلك الكتاب العزيز فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]
ومعنى الرد إلى الله سبحانه الرد إلى كتابه ومعنى الرد إلى رسوله صلى الله
عليه وسلم الرد إلى سنته بعد وفاته وهذا مما لا خلاف فيه بين جميع
المسلمين"
.
-
وهم يؤكدون أن الخير كله فيها وأن الشر كله في الابتعاد عنها وفي الابتداع
الذي يسببه اتباع الهوى والبعد عن السنة والسير خلف التأويلات الباطلة
التي هلك بسببها الكثير ممن جرفتهم التيارات المنحرفة ومن تلك الأقوال.
- قال عبد الله بن مسعود "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم"
.
- وعن معاذ بن جبل من كلام له رضي الله عنه قال : "فإياكم وما ابتدع فإنما ابتدع ضلالة"
.
-
وقال حذيفة: اتقوا الله يا معشر القراء خذوا طريق من قبلكم فوالله لئن
سبقتم لقد سبقتم سبقاً بعيداً وإن تركتموه يميناً وشمالاً فقد ضللتم ضلالاً
بعيداً"
.
-
وعن عبد الله بن مسعود قال: يجيء قوم يتركون من السنة مثل هذا يعني الإصبع
فإن تركتموهم جاؤوا بالطامة الكبرى وإنه لم يكن أهل كتاب قط إلا كان أول
ما يتركون السنة وإن آخر ما يتركون الصلاة ولولا أنهم يستحيون لتركوا
الصلاة
.
- وعن عبد الله بن الديلمي قال : إن أول ذهاب الدين ترك السنة يذهب الدين سنة سنة كما يذهب الحبل قوة قوة
.
- وعن حسان بن عطية قال: ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة
-
وعن عمر بن عبد العزيز قال: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر
بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله عزّ وجلّ واستكمال لطاعته وقوة على
دين الله ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في رأي من خالفها فمن
اقتدى بما سنوا فقد اهتدى ومن استبصر بها بصر ومن خالفها واتبع غير سبيل
المؤمنين ولاه الله عزّ وجلّ ما تولاه وأصلاه جهنم وساءت مصيرا
.
-
وأقوالهم في هذا الصدد كثيرة وإنما تلك أمثلة يكتفي بها طالب الحق الحريص
على سلامة دينه من غوائل أقوال أهل الباطل الذين يقدمون البدع على السنة
ويحلونها محلها ويعتبرونها ديناً يجب اتباعه.
استدلالهم على وجوب العمل بما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم:
يعمل
السلف بما ثبت عن الصحابة رضوان الله عليهم امتثالاً لأمر النبي صلى الله
عليه وسلم فإن الصحابة أفقه وأعرف بما يقولون وقد زكاهم الله ورسوله وبذلك
تعتبر أقوالهم وأفعالهم سنة يجب العمل بها وخصوصاً الخلفاء الراشدين منهم.
ومما ورد في وجوب العمل بما صح عن الصحابة:
- جاء عن العرباض بن سارية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها عضوا عليها بالنواجذ))
.
- وعن خصوص أبي بكر وعمر رضي الله عنهما جاء قوله صلى الله عليه وسلم : ((اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر))
وهذا يدل على مزيد فضلهما ووجوب الاقتداء بهما.
وعلى هذا أجمع السلف وهو من أسس عقائدهم وقد مدح الله السلف الكرام من الصحابة ومن سار على نهجهم بقوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ
الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم
بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ [التوبة:100]
فهم السابقون الأولون وأصحاب الشرف العظيم في وقوفهم إلى جانب نبيهم في
ساعة العسرة وفدائهم له بأموالهم وأنفسهم وهم أول المجاهدين في سبيل الله
من هذه الأمة.
وكانت نسبتهم في البداية بالنسبة إلى نسبة الكفار كنسبة
الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود فإن الأرض كلها على الشرك وعبادة
الأصنام.
فاستعذبوا العذاب في سبيل نشر النور إرضاءً لله تعالى وقرباً
إليه ولا يوجد مسلم على ظهر الأرض إلا وهو مدين للصحابة بالشكر والتقدير
على نصرتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى فتوحاتهم التي عمت أكثر
البقاع في عهودهم المجيدة.
وتلك الحقيقة يعيها كل مسلم إلا من فسدت فطرته وانحرف واتبع هواه كالرافضة الذين ذهبوا يسبونهم ويكفرونهم مضادة للآية الكريمة: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ [الحشر:10]
ولهذا فقد كان ابن حزم رحمه الله حينما يدحض النصرانية ويثبت لهم تحريف
كتابهم يستدلون عليه أن المسلمين أيضاً أثبتوا أن في القرآن تحريفاً
وزيادةً ونقصاً فيقول لهم لا تحتجوا بكلام الرافضة واحتجوا بكلام المسلمين
أو نحو ذلك لمعرفته التامة بأنه لا يمكن أن يقدم مسلم يؤمن بالله رباً
وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً أن يدعي بأن هذا القرآن الموجود بين أيدينا
قد تخلى الله عن وعده بحفظه أو أنه سلط عليه من يغيره ويبدله فإن من اعتقد
حدوث هذا فقد خرج عن الإسلام إن كان يدعيه وكفر به.
وقوف السلف عند حدود النص
أما
بالنسبة لوقوف السلف عند حدود النص وعدم الخوض فيما لا مجال للعقل فيه
فهذا دليل من أقوى الأدلة على عمق فهمهم وقوة ذكائهم وحرصهم على ما ينفعهم
في دينهم, به يظهر صدق متابعتهم لنبيهم عليه الصلاة والسلام وحرصهم على
إقامة سنته والبعد عن ما يكدرها فقد علموا أن العقل من أكبر نعم الله على
عباده وأن الله جعله عوناً لصاحبه وربط الله به كثيراً من القضايا ونوّه به
وبعلو شأنه ولكن السلف مع هذا يعلمون علم اليقين أن العقل له حد ينتهي
إليه فإذا تجاوزه انقلب إلى الجهل والحمق سنة الله في خلقه وإن تكلف الأمور
التي لا سبيل لمعرفتها إلا عن طريق النص يعتبر تعدياً وظلماً وقد يجر إلى
القول على الله بغير علم والكذب عليه مع أنهم ليسوا في حاجة إلى ذلك فإن
السنة واضحة ونهج من سبقهم فيها واضح وقد يجر كذلك إلى إحداث البدع وهو
الأمر الذي ينفر منه السلف أشد نفور ويحذرون منه أشد تحذير فطالما جر عدم
الوقوف عند النصوص إلى إحداث البدع والخرافات بل وإماتة كثير من السنن كما
هو الحال عند أصحاب الأهواء وعباد العقول وتقديمهم لها على النصوص,. وكم من
الفظائع والمآسي ارتكبت بسبب عدم فهم النصوص كما يحدثنا عنها التاريخ بل
وإن تكفير أهل البدع بعضهم بعضاً ودليلهم واحد لهو أقوى الأدلة على مضار
عدم فهم النصوص إذ إنه لا يوجد أي نص يؤدي إلى تكفير العاملين به بعضهم
بعضاً وهو أمر معروف بداهة.
إعراض السلف عن أهل البدع
أما
إعراضهم عن أهل البدع وعن مخالطتهم فقد أصبح أمراً معلوماً بالضرورة عند
أهل السنة فقد حذروا من مجالسة أهل البدع والاستماع إليهم لعلمهم أن أصحاب
البدع يوردون شبهات يضللون بها العامة قال تعالى : وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68].
وقال تعالى : وَقَدْ
نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ
يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى
يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ [النساء:140].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة))
. وفي رواية: ((وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة))
.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))
وقال صلى الله عليه وسلم: ((من رغب عن سنتي فليس مني))
.
وهذه
الآيات والأحاديث كلها تدل على وجوب الإعراض عن المبتدعين وعن أقوالهم وما
يحدثونه في دينهم بأهوائهم التي يقدمونها على السنة ومن هنا كانت نفرة أهل
السنة عن أهل البدع اتباعاً لأمر الله وأمر المصطفى صلى الله عليه وسلم
ونصحاً لأنفسهم ولغيرهم.
وقد أكد السلف التحذير من أهل البدع ووجوب البعد عنهم.
-
قال ابن مسعود رضي الله عنه: وستجدون أقواماً يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب
الله وقد نبذوه وراء ظهورهم عليكم بالعلم وإياكم والبدع والتنطع والتعمق
وعليكم بالعتيق
.
- عن مجاهد قال: قيل لابن عمر: إن نجدة يقول كذا وكذا فجعل لا يسمع منه كراهية أن يقع في قلبه منه شيء
. وعن تحذيرهم من سماع كلام القدرية جاء عن أبي أمامة الباهلي قال: "ما
كان شرك قط إلا كان بدؤه تكذيب بالقدر ولا أشركت أمة قط إلا بدؤه تكذيب
بالقدر وإنكم ستبلون بهم أيتها الأمة فإن لقيتموهم فلا تمكنوهم من المسألة
فيدخلوا عليكم الشبهات"
-
وعن تحذيرهم من الدخول في الخصومات مع أهل الأهواء جاء رجل إلى الحسن
البصري فقال : "يا أبا سعيد إني أريد أن أخاصمك. فقال الحسن: إليك عني فإني
قد عرفت ديني إنما يخاصمك الشاك في دينه"
- وعن بغض أهل الأهواء وحب الابتعاد عنهم قال أبو الجوزاء : "لئن يجاورني قردة وخنازير أحب إلي من أن يجاورني أحد منهم"
. يعني أهل الأهواء.
- وكان الحسن يقول : "لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم"
.
وكان
ابن طاوس جالساً فجاء رجل من المعتزلة قال: فجعل يتكلم قال فأدخل ابن طاوس
إصبعيه في أذنيه وقال لابنه: أي بني أدخل إصبعيك في أذنيك واشدد ولا تسمع
من كلامه شيئاً. قال معمر راوي الخبر يعني أن القلب ضعيف
.
وروى
الدارمي عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال : "إذا رأيت قوماً
يتناجون في دينهم بشيء دون العامة فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة"
.
وكان الشافعي ينهى النهي الشديد عن الكلام في الأهواء ويقول : "أحدهم إذا خالف صاحبه قال كفرت والعلم فيه أنما يقول أخطأت"
.
وقال علي بن المديني : "من قال فلان مشبه علمنا أنه جهمي ومن قال فلان مجبر علمنا أنه قدري ومن قال فلان ناصبي علمنا أنه رافضي"
.
وقد
رويت عن السلف من النصوص الكثيرة ما لا يحتمل المقام ذكرها هنا وكلها تهدف
إلى أمر واحد هو اجتناب أهل البدع والتحذير منهم امتثالاً لقول الله تعالى
: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي
آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ
وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68]. وقوله تعالى : وَقَدْ
نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ
يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى
يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ
جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء:140].
وفي
عدم مجالستهم حماية للعقيدة وحماية لقلوبهم لئلا تميل إلى شيء من شبهات
أهل الباطل وحتى لا تنتشر أفكارهم بين الناس وفيه كذلك قيام بواجب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر فإن أهل البدع إن لم يجدوا من يرد عليهم تمادوا
في باطلهم وضعف في نفوس الناس الإحساس بوجوب تغيير المنكر بل يستمرئون بعد
ذلك وقد يعترض البعض فيقول إن مجالستهم ومناظرتهم فيها إقامة للحجة عليهم
ودعوة لهم للرجوع أو يقول قد ناظر بعض السلف أهل الباطل كما فعل ابن عباس
مع الخوارج وعمر بن عبد العزيز معهم أيضاً والمناظرة المشهورة لعبد العزيز
الكناني مع بشر المريسي وغير ذلك والجواب والله أعلم أن مناظرة السلف لأهل
البدع تعتبر بالجملة قليلة ولا يناظرونهم إلا إذا رأوا أن المصلحة تقتضي
ذلك وفي مجامع عامة وعلنية.
وهي أيضاً لا تكون إلا مع من يرجى منه
الرجوع أما المعاندين منهم المصرين على بدعهم الداعين إليها فإنهم كانوا
يحذرونهم ويحذرون منهم وهذا من باب الحزم وإنكار المنكر والبعد عن الشر قبل
الوقوع فيه فإن مجالسة أهل البدع والاستماع لكلامهم قد يجذب الشخص إليهم
وقد يتشوش فكره بكلامهم فإذا حسم الشر من أوله كان أضمن لسلامته ومن هنا
فإنه يجب الحذر من قراءة كتب المخالفين والاستماع لخطبهم وكلامهم قبل أن
يحصن الشخص نفسه بالقراءة عنهم ومرد شبهاتهم.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن من وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه))
.